معالي الإغماءة

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 

* "تعرض وزير الصحة لحالة إغماء أثناء عمله الميداني بعد مصاب الجمرات" ـ الأنباء.

.. قبل أي شيء أريد أن أتقدم بالعزاء، كما فعلت الأمة، لكل أهل وأحباب الحجاج الذين سقطوا في تدافع الجمرات، ونسأل الله أن يحتسبهم في عليين. وعزاؤنا موصول لكل أمة محمد. ثم أني أدعو الله أن يحتسب كل جندي من جنودنا المصابين في حادثة الجمرات بالأجر الفياض بكرمه. ونفتخر بكل من شارك من إخواننا الجنود وأبنائنا الكشافة، وكل موظف انتـُدب في الموسم العظيم، من تعرض لإغماءة أو من نزف التعب من كل كيانه.. نشكرهم شكرا لا يقف عند أحد، ونقف أمامهم تقديرا واحتراما وامتنانا.. كل هؤلاء لن تسمعوا عنهم في الجرائد، ولن تطير أخبارهم عبر الدنيا. هؤلاء سرهم عند الله .. وكفاهم.

إلا وزير الصحة..

لقد رأيت صورة حمد المانع وزيرنا للصحة منهكا ومفترشا الأرض ولا غطاء على رأسه.. كان الوزير هنا إنسانا منا، واحدا من أبناء هذا البلاد.. جدَ وتعب وتحمس، وزاد في حماسته، وتحت نزح العرق وسطوة الشمس، وثقل الفجيعة على القلب والضمير والبدن وقع هذا الإنسان كما يقع عند النـَصب والإرهاق والفزع أي إنسان. كانت صورة المانع المنهك وبجواره كبير موظفيه صورة أختارُها هذا العام لتعبر عن البلاد.. كل البلاد. وعندما نختار الصورة فخرا فنحن لا نفخر بالمانع، ولكن بكل عامل في موسم الحج. فالمانع قدم ما أحب أن يقدمه، وربما أنه لم يرد أن تكون صورته أمام الدنيا دليلا على اجتهاده الفائق، حتى لا يحتسب تملقا، واستظهارا إعلاميا سمجا.. ولكن هذه الضريبة يدفعها من يكون في قمم الوظائف أراد أم عفّ.

لا نشك في أن حماسة الوزير أولا إلا لله، ثم لأنه يعرف هول المسؤولية الملقاة ليست على وزارته ولكن على الأمة.. الأمة التي أوكل إليها أشرف عمل في الدنيا، ولا مناص إلا أن تكون أهلا لهذا الشرف.. لا خيار آخر. وكل مسؤول في هذه البلاد يعي المسؤولية وخطرها، ويتفاوت كل مسؤول في قدر الاستجابة لهول المسؤولية هذه بالذات.. وهنا حديث.

لقد كان المانع في موقع الغبار والدم والخوف يشرف على كل حركة، وعلى كل مناورة لنقل المصابين والموتى بكل جهده وهذا يدل على أنه من الذين تجاوبوا مع المسؤولية الكبرى.. ومسؤولون تجاوبوا صحيح بكل ما تتطلبه الوظيفة حسب جدول تعليمات مسؤوليات وواجبات الوظيفة ولم يتعدّوا ذلك. المسؤول من النوع الثاني أدى واجبه عقديا أمام الوظيفة، ولكن كانت تنقصه تلك الحماسة الدافعة الثائرة التي تدرك خطر المسؤولية التي تتعداه لكامل الأمة، وتتعدى كل الأمة إلى الله.. هنا الفرق. والفرق كما ترى.. لا يقاس، أو من غير العدل أن يقاس.

لقد كان الجنود والكشافة وكل من عمل مع الحجيج من أول يوم إلى آخر يوم هم حملة بيارقنا أمام أمة الله.. هم الذين عانوا وكابدوا، هم الذين على أكتافهم لم يحملوا فقط موسم الحج ولكنهم يحملون كامل الأمة.. هم الذين يدفعون كل حاج ليدعو لهم أو ليشكرهم.. وحينها، كل دعوة وكل شكر، إنما هي نوارات على جبين الأمة. هؤلاء هم الذين يقودون الركب كل موسم.. ولن يستطيع أحد أن يجازيهم بمقدار ما عملوا سوى من عملوا لأجله.. الله.

ولكن.. لم يكن طلبنا حتى نقدر عمل الوزراء أن ينزل كل واحد إلى الميدان والغبار والشمس ليُغمى عليه، ولم يكن أيضا قياسنا لكل أعمال المانع أن ينزل للميدان حتى يغمى عليه، أوردنا الإغماءة دليلا على من تعتلج في قلبه الحماسة والحب والصدق، لا من يؤدي ساعات العمل الرسمي ويمضي. طلبنا المهم جدا هو معايشة المسؤولية الكاملة، وهذا لا يتأتى فقط في النزول للمواقع وخوض معارك الغبار والشمس، ولكن تقدير المسؤولية في تلبس كامل واجب الوظيفة الكبيرة أمام السماء قبل قوى الأرض.. أن يخطط كل مسؤول وهو في مكتبه من أول يوم كي لا تحدث الدواعي التي تجلب الدم والغبار والشمس.. رغم كل حبنا للمانع وتقديرنا الشديد له، ولكن نقول هذا ليس منتهى عمله. عمل كل مسؤول كبير هو منع الواقعة.. قبل أن يدفعه ضعف التدبير الوقائي إلى الحماسة والإغماء، هذا أهم طلباتنا.. والباقي حماسة وإخلاص لا نقيسها نحن، ولكنها من حواس الضمير لمن يحمل الضمير.

ليست المسؤولية مظهرا ولا ألقا أو وجاهة ديكورية.. يوم سقط الوزير على الأرض ووقع غطاء الرأس وبدا الضعف البشر.. بدا إنسانا كما تدعو له وظائف الفيسيولوجيا فلا نقطة طاقة زائدة في خلاياه عن كل إنسان.. وأن أمامنا كأي واحد منا خارج هندامه الوزاري، فصار أقرب إلى قلوبنا.

والمانع وهو مغمى عليه بعد عمل ميداني مرهق أحتسبـَهُ، كما نـُقـَدِّر ونرجو، لله ثم حبا في أمته، فإنه ذاك اليوم .. كان أهيبُ الوزراء!