سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
* "الأمير طلال قدمني للمجتمع"- محمد يونس، الحاصل على جائزة نوبل.
.. وأنا أقرأ ضمن الكتب التي أقرأها وقع نظري على منظمة "أشوكا"، وهي منظمة خيرية تقدم دعما ماليا لرواد العمل الاجتماعي المنتج في العالم الثالث، وتسميهم المنظمة "الرواد Entrepreneurs " أما معنى الرواد في عرف هذه المنظمة فهم الفئة من الناس التي تسهم في رفع كفاءة الحياة للناس في بلدانهم، ليس فقط في مجالات المستوى المعيشي ولكن أيضا في قيم الحياة الأخرى كالتعليم، والحقوق الطبيعية للفرد، والعناية الصحية، الإسكان، والإعلام.. ومجالات أخرى. والمنظمة تُعنى بهؤلاء الأفراد الذين يأكلهم همٌّ ضروسٌ في تقديم الخدمة العامة، ويكرسون جزءا غير يسير من جهدهم وحرفيتهم ومهاراتهم ومالهم من أجل رفع مستوى إخوتهم من مواطنيهم.. الناس الذين يمشون ميلا آخر مع جماعتهم ليعطوهم أفقا جديدا أكبر، ويفرشون فـُسحة ًإلى الأمام.
وسمو الأمير طلال لم يتقدم لوظيفة كبرى، وكان بإمكانه أن يفعل ذلك، وأن ينجح أيضا بها، ولم يسع ليحقق لذاته شيئا مباشرا ومقصورا لشخصه أو ما يليه من أقاربه ومعارفه، ولكنه من الناس الذين يضع الله فيهم هذه الطاقة الوقادة التي لا تعرف الهدوء، هذا السيل العارم من حب الخير العام للإنسان فلا يوقفه سد، ولا يمنعه حد.. إنها طاقة تولد مع مختارين من البشر، ثم يبقيان، الطاقة والفردُ، معا أبَدا لا يمكنها الافتكاك، وإنما اتحاد ٌينضرم وينصهر حتى يصير من عنصر الكيان ذاته.. رحلة تبدأ ثم لا تنتهي، فرحلات الكشف الإنساني للخير العام رحلات تبدأ ثم لا تنتهي.. لأن نجاحها معقود على استمرارها.. واستمرارها. وأنت ترى هؤلاء النفر الذين يعرفهم العالم بالمحبة البشرية المشرقة ينفتح قوس تاريخ العمل الخيري في حياتهم.. ثم لا قوس آخر يحدد نهاية العمل. الأمير طلال، منذ عرفناه وعرفه العالم، وهو تحت هذا العنوان المضيء، اختاره هو أو اختارته ظروف العمل لا فرق.. لو لم يكن معدا إعدادا استثنائيا من الله لمهمة في هذا المقدار من التكريس المتبتل لخير العموم، لما نفع الاختيارُ الذاتي، ولا اختيارُ الظروف.. لذا سيكون الأمير طلال شخصا يلقي ظلاله على المنطقة والعالم، كمؤسسة عالمية فعالة تنتقل على قدمين.
وربما ما أقترحه هو يدور في عقل الأمير وفي ضميره، لأن لا عمل له يأخذ جل اهتمامه ويحدد المؤشر في بوصلة طريق حياته إلا دعم الأعمال التي من شأنها أن تساهم في أن يأتي يوم تنتهي معاناة وآلام الناس من انخفاض مستوى الحياة في كل مجال.. وأولها الفقر، والفقر كفيل لوحده ليحقق باقي الرزايا.. وكأنه قاطرة، والرزايا عربات يجرها من ورائه.. والأمير أول من يدرك ذلك، بل يعيشه كل لحظة، وكل يوم.. وتقديم الاقتراح هو من قبيل لكي يطمئن قلبي، وربما تفعل كلمات صغيرة من شخص صغير الشأن.. شيئا كبيرا، مثل عجلة عملاقة يردع سيرها حجر صغير.. فيزال الحجر، وتمضي العجلة في المسير.
مجتمعنا، مثل أي مجتمع من مجتمعات الدنيا - والمفروض أن يرتقي عن باقي المجتمعات درجة أو درجات، في وجود أشخاص من رواد العمل الاجتماعي من واقع التشبع بالتربية الدينية الإسلامية، ثم بطبيعة الجنان السلوكي عند أفرادنا فيما نحسبه ونظنه- ولكن عدم خروج أعمال فردية رائدة كانت ستحقق شكلا جديدا في الحراك الاجتماعي بالمضامير المتعددة التي يمكنها بالفعل المساهمة الحثيثة مع ما تفعله الدولة جاهدة، ومع المؤسسات المنتظمة، ليس نقصا في هذا النوع من الأفراد في مجتمعنا، بل هم كثيرون ويتقلبون حماسة واستعدادا للعمل التطوعي والعطاء من الجهد والمال والوقت والخبرة.. لو أن هناك قناة فـُتحت أمام سريان هذه الأعمال، أمام تحقيق ما يثور في ضلوع أفراد يقطع نومهم وهناءة حياتهم أنهم يطمحون للخدمة الاجتماعية في مقاسات أكبر، وتخوم أبعد، وفسحة أرحب.. هذا الشعور الذي يعرفه الأمير طلال لأنه شعلة متوهجة في قلبه وضميره.. يعرف الناس الذين يريدون أن يكونوا منارات متطوعة بالنور الكاشف الهادي بجوار بحر متضارب الموج.. كما هو منارة كاشفة بذاته. إن كمية الأفراد الذين يمكنهم أن يصيروا روادا في العمل الاجتماعي لرفع مستوى حياة الأفراد في بلدنا في رفد المشاريع الصغرى المنتجة، وفي الرقي بالصحة، والتعليم، والإسكان كثيرون جدا.. إنهم يا سيدي الأمير مثل تلك العجلة العملاقة التي يمنع من دورانها تلك الحصبة الصغيرة تحتها.. ومن سيكون همه زحزحة تلك الحصاة.. إلا أنتم!
والمقترح إذن إيجاد منظمة مستقلة، وكبيرة المرونة وذاتية التمويل من مصادر مختارة ومحددة تحمل اسمكم، أو تختارون لها عنوانا مناسبا يكون هدفـُها دعم رواد العمل الاجتماعي في البلاد، والمساهمة قبل ذلك في حرث القناة المناسبة لتسيل مياه تلك الأعمال بيسرٍ وانسياب.. ويُحدَّد معنى ومواصفات الرائد الاجتماعي، وقد يكون مناسبا ليس فقط دعم مشاريعهم وهي خطط على أوراق، بل قد يكون أنهم بطريق أو بآخر أثبتوا على أرض الواقع قدرتهم على إنجاز العمل الاجتماعي في المجالات المتخصصة والمتنوعة.. ولنا أن نتصور حجم المساهمة الكبرى التي ستصب في المجتمع فتتضاعف مرات ومرات أعمال التقدم الاجتماعي وتزيد تسارعه، وتكون كتفا عملاقة أخرى يمكن أن تنقل جبلَ الهموم المتراكمة مع الكتف الرسمية..
وقد يكون للمؤسسة هذه غير دعمها المادي والخبراتي تنمية مهارات العمل الاجتماعي، وترشيده وتنظيمه، وتآخيه مع المنظمات العالمية الكبرى والبازغة في هذا المجال.. وربما تخصيص جائزة سنوية لرواد العمل الخيري عندنا كل عام..
معا.. حكومة، ومجتمعا وأفرادا، قد ندفن هوة الهموم والحاجة.. عندما نزيح عائقاً صغيرا تحت العجلة!