سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية
أتقدم لكم بالتهنئة بقرب وصول شهر رمضان الكريم، وعسى الله أن يبارك صيامكم وصلاتكم وقيامكم. وهي مناسبة بما أن رمضانَ فـُرِضَ ليكشف لنا بالتجربة الممارسة عن ناموسَيْن لم ينقطعا ولن ينقطعا، وهما الفقرُ، والجوع. وبنيتنا أن نخلص القول والرأي ورب السموات يشهد علينا، ويحاسبنا، فلا بد أن نعترف أن الفقرَ في بلدنا تفشى، وأن الجوعَ لم يعد أسطورة من الأساطير، وإنما صار حقيقة ًمُعاشة في أنحاءِ البلاد. وأن نكران ظاهرتين أزليتين نكراناً صريحا لنتغنى بوفرٍ عميم ، حتى وإن كانت مناظرُ الفقر تسد العيونَ لهو أمرٌ أصفه بالوحشية الإنسانية، فوق أنه نفاقٌ حتى النخاع.. وحشيةٌ سافرةٌ أن يرى أحدٌ ويعلم أن هناك من ينام عاصرا يده داخل تجويف بطنه من وطأة الجوع، ثم يغني أمامه أغاني الشبع، ويلغيه، ويلغي حقيقته، ويلغي معاناته من الوجود.. ولكنه لن يستطيع مهما فعل أن يطمس ما يملأ الواقع، ويعجّ في الأماكن، وأهنئ من يدعي أن الفقرَ غير موجود، ولا الجياع، لأنه حقق فوزا صريحا في مسابقة شطب الضمير، وإلغاء القلب.. وإضاعة المنطق.
وهل هناك بلدٌ مهما ملك من الكنوز والصناعة والمصارف يخلو من الفقر على وجه الأرض؟ لا. هل هناك بلدٌ ولو كان مدرعا بالحديد من أقصاه إلى أقصاه يخلو من الإجرام واختلال الأمن؟ كلا. فمقياسُ الدول ليس هكذا، ولا التصور أننا في جنة على الأرض، هذا لا يجوز، وفيه جرمُ عدم إيصال الحقيقة لولاة الأمر، ولعموم الناس. فإن تخدِّر الناس على ألا يتحذروا، أسوأ من أن تبالغ في تخويفهم من الشرور ومكائد الأيام.. لأنك في الأولى تسرق أهم ما يملكه أي كائن أرضي، وهي غريزة الترقب والحماية، ومن دون هذه الغريزة يصير الكائنُ عارٍ أمام أقل الأخطار.. وفي الثانية لا يهم إن جعلت الناسَ يضعون بدل القفل قفلين على أبوابهم، ويدققون كل يوم في حماية مقتنياتهم، ويحرصون على ذهاب وعودة كل فرد في أسرتهم.
وفي بلدنا الجريمة زادت والسرقة انتشرت تلوث وجوه المدن، ولم يعد هذا خافٍ على أحد، وأمسك من يمشي في الشارع وسيقول لك قصة شهد عليها، وليس فقط نقلها.. إذن، يجب أن نتكاتف حبا في بلدنا لحمايته، حتى وإن غلـّظنا التحذير، كي يزداد الحرصُ لحماية الأفراد والممتلكات، والبلاد والعباد.. وهنا فأنت تحب بلدَك وناسـَك، لأنك تخاف عليه.. وعليهم.
والفقرُ؟ لله منه ما أوجبَ وجوده. وهنا نؤمن بالعدل الإلهي، وإلا لقلنا لماذا يقدر الله الفقرَ على ناس؟ وكان بإمكانه تعالى أن يجعلنا كلنا لا نتحرك من ثقل المال والمقتنيات. أراد الله الفقرَ لحكمة، وخصّ الفقرَ والفقراءَ في كتابه العظيم، فلا يمكن أن تكون هناك بلادٌ لا ينام فيها جائعٌ أبدا، وهي حكمةٌ خالدة. الفقرُ موجودٌ لامتحان الصبر والمحبة الإنسانيتين، وليكون طريقا بإذنه تعالى للجنان السرمدية. إن افتقر الواحدُ منا وصبر، وجاهد أن يعمل كي يقضي على فقره، فهذا عملٌ محسوبٌ عند الله، بل يكون هنا الفقيرُ أهم عند الله من أكبر أغنياء الأرض، وهو مسببٌ لنشر المحبة بين الناس، وإيقاظ جانبهم الروحي الإنساني الخير والمنير، حين يهبوا لمساعدة الفقراء، ويتطوعون بالمال والجهدِ والتدريب والتوجيهِ حتى يكون الفقرُ أقل حضورا، وأخف وطأة، وهنا التكاتفُ الذي وُصف بالجدار المرصوص، فالجدارُ من أحجارٍ متنوعةٍ وكثيرةٍ صغيرة وكبيرة، مموِّشةٍ، ومسلوبة، ولكنها بتراصها تصنعُ الحصن.. وعيب أن نُغمض أعيننا وننكرُ شيئا موجودا ولا عيبَ في وجوده، إنما العيبُ في إنكاره وهو يصدم عينَ الشمس.. إن أنكرتَ مرَضاً فكيف تقاومه أو تعالجه؟ كيف نقاوم الجوعَ حين ندعي أن لا أحد يجوع؟ أو الفقرَ ولا فقير، أوالجريمة ولا جريمة؟
بلدُنا زاد سكانُه، كثر وافدوه، وتعقدت شؤونه، وتعددت مشاربه، وتوسع وتداخل مثل أي أمّةٍ في الأرض، وكما نحصن أنفسنا من الأمراض المعدية، فإن الفقرَ والجريمة وجهان لعملةٍ واحدة، وهي معدية وسريعة التفشي، والدليل ما صار إليه مجتمعنا.
وفي الجهة المقابلة أظهر هذا جوانبَ مشرقة ومضيئة في مجتمعاتنا، وهم كل من اعترف ووعى أن هناك فقرا، وأن هذا الفقرَ شنيع، وأن كثيرين من ناسِنا ينامون على الطوى، ولا بد أن يُغاثوا. وأن الجريمة تتسع بأقبح أنواعها، وتجب مقاومتها بقوةٍ وتصميم وحزم.. لذا، هم ناس تطوعوا لله قبل كل شيء.
وهذا من روحِ رمضان!