سنة النشر : 31/01/2009 الصحيفة : الاقتصادية
.. حين أتمشى في المساء، وأرى الشبابَ في الكورنيش يتسكعون بلا هدفٍ، ويرقصون على موسيقى "الراب"، وهم يرتدون الأزياءَ التي نبعت من "هارلم" نيويورك، وجرى وراءها شبابُ العالم.. أتأسف أن أجمل فترةٍ في أعمارهم تـُعْصَرُ حتى آخر قطرة، وأمضي حزينا..
وكنت أقول لكم في أمس كيف كان الأسبوع الماضي حافلا مليئا، بارتباطات حبرت صفحات مفكرة مواعيدي، بأعمال مضيئةٍ قام بها ناسٌ مضيئون، وتوقفنا عند ملتقى الأعمال التطوعية الذي أقيم في غرفة تجارة وصناعة الشرقية ليومَي الثلاثاء والأربعاء.. والأربعاء كان يومي المهم، ليس لأنه موعد عرض تجاربي، ولكن فيما حصل مباشرة بعد نهاية فعاليات الملتقى.
بعد انتهاء الملتقى كان عندي ارتباطٌ مع جماعةٍ أسسوا مجموعة تعاونت لتصميم هندسةِ خطة للبحث عن المواهب في العلم والأدب والرياضة والفن، في البيوتِ، وفي المدارس، وفي الحارات.. وفي كل مكان. وكنت أتمنى الوقتَ يجري كي أعرف ما لديهم من مفاجآت، فيبدو أن لهم طرقا ابتكارية استحدثوها.. لولا أن الشابَ "عمر عثمان"، وهو من مؤسسي أولاد الخبر وبناته، اعترضني، ومنعني.. وله سطوةٌ عليّ لا تقاوم، وهو يعلم ذلك ويستغلها بدهاء، سطوةٌ نابعةُ من حبّي له، لشخصِه ولولعه بالعمل التطوعي، ولقدرته الكارزمائية على جذب الشباب من حوله.. وجذبي. مسكني "عمر" وقال: "هناك شبابٌ كثيرون قدموا من أنحاء المملكة ويودون الاجتماع معك"، وتعذرتُ بموعدي المهم، إلا أنه وقف بقامتِه الفارعة أمامي، وكنتُ أعرف أنه لن يتركني أمر رغم لهجته المتعطـِّفة، ثم وصل إلى قلبي الضعيف حين قال: "الشبابُ كانوا يأملون أن يستعرضوا تجاربَهم في الملتقى أمام الناس، ولكن لم تحن لهم الفرصة".. فغضب القلبُ الضعيف، من سِمَةٍ تصيبُ مناسباتنا، وهي إغفال أعمال الشباب وأفكارهم، وأن نترك المنصة لهم أحياناً، بينما نلـْمَعُ نحن الكبارُ تحت الأضواء بلا طائل، ونتناسى أن الشبابَ هم القاطرة التي تنقلنا إلى المحطة القادمة في سكة الزمن القادم. وهنا هاتفت مجموعة الباحثين عن المواهب، وقدمت لهم أعذاري، على أن أجتمع مع الشباب لساعةٍ لا أكثر، على أن الاجتماعَ أكل ساعاتٍ ثلاثا، وفي الطريق أكل معه موعداً آخر.
الشبابُ تقاطروا من أنحاء المملكة، وتحلقنا في بهو مبنى الغرفة الرئيس، وبدأ كل واحد منهم يقدم نفسه وعمله.. وكانوا أكثر من مذهلين، بل إني أستحيت أني أنا أعطيتُ وقتا في الملتقى لا أستأهله مقابل أي مشروع أنجزه هؤلاء الشباب.. أنا الذي أتكلم فقط فأعتلي المنصات، ولا أفعل شيئاً يُذكر، وهؤلاء يحرمون من عرض تجارب ستحول كامل مجتمعنا إلى مجتمعٍ آخر.. مجتمعٌ يسبحُ بالضوء.
الأولاد عظيمون كلهم، وحفروا على وجهي ابتسامة فخر وإعجاب وحب، أولادٌ من جدة: علي سالم، محمد سامر جاوي، ومحمد مدني ( ومحمد هذا داخل بعد محاضرة الدكتورة المُجيدة نورة السعد زميلتنا في الجريدة، بكلمةٍ أعجبت الوزيرَ العثيمين فأشاد به، وبقدومه من جدة لحضور الملتقى، ولم يعلم الوزيرُ أنه لم يرَ إلا قمة جبل الجليد، فهذا الولدُ في الاجتماع أزاح جانبٍا من كتلةِ أعماله وأفكاره التطوعية) ثم شرح "محمد جاوي" مشروعاً عملياً وبرامجياً تلفزيونيا بعنوان "فريق المساعدة"، وأثبت "محمد مدني" أن العملَ التطوعي هو طريقٌ أيضا للشباب نحو العمل العصامي التجاري المحترف.. سأتطرق إليه يوما بالتفصيل. وهدفُ مشاريعِهم الاستفادة من أوقات الفراغ في خدمة المجتمع بأعمالٍ تطوعيةٍ في كل ميدان، من البيئة للصحة لصيانة المرافق.. إلخ.
ثم "المهندس غسان سمير جمل" من جمعية ماجد بن عبد العزيز للتنمية والخدمات الاجتماعية في جدة، وهو شابٌ بهي خـُلِقـَتْ معه ابتسامةٌ توحي بنور الروح والنفس، وقدم بأسلوب طلي أعمال الجمعية، ثم ترك لأخيه وزميله المهندس "درويش إحسان سلامة"، أن يشرح لنا عن مشروعٍ سامٍ حقا ومبتكر في حقله، ومع أن "غسان" عضو أيضا في المشروع إلا أنه آثر لأخيه وزميله بالشرح.. ولم يخيّب الولدُ درويش (مع أنه مهندس، كلهم بعيني أولادٌ رائعون يسكنون القلب) توقعات زميله، فانطلق هادراً بلهجة جداوية خام ليزرع مشروعَه "أصدقاء الأيتام" برؤوسنا.. وطرافة المشروع أنه يستهدف فئة نغفل عند الأيتام، وهم المراهقون والشباب الصغار، والفكرة نفاسانية اجتماعية غرائزية، فكل منا يحتاج إلى صيانة ذات وجدود وكرامته، ويحتاج إلى حنان، ويحتاج إلى صديق يشاركه ويلاعبه ويتحداه، ويرافقه في ليلة عرسه.. هذا ما يقدمه مشروع "مجموعة أصدقاء "الأيتام".. مشروعٌ يستحق تاجاً لمّاعاً فوق الهامات، فكـّر به أولادٌ، لم يُعطـَوا الوقتَ لشرح ما لديهم، لا لتقديم أو تلميع أنفسهم..
ولو يسمح الظرفُ لتحدثت عن عشرات لبقية أعمال الشباب، وبالذات مشروع في الإنترنت يشمل العالم العربي بأجمعه صممه ويديره شبابٌ سعوديون.. ولحدثتكم عما جرى في مواعيد آخر مساء الأربعاء ويوم الخميس، وسيأتي يوم أشرحها بالتفصيل، وكلها رائعة. وترون أن الأبطالَ الحقيقيين في "الملتقى" هم الذي لم يصعدوا منصة الملتقى.. ولكنهم ماضون, والعملُ الجميل كالشمس سيشرق حتماً..
عندما أعيد التمشي على الكورنيش، سأضحك من قلبي وأنا أرى الشباب يرقصون "الراب" وقبعات البيسبول مقلوبة فوق رؤوسِهم.. لأني أعلم أن كل هذا غبار فوق سطح لامعٍ صلدٍ.. أول ما ينفخ عنه يعود برّاقا.. يعود لأصله. وبمجرد الوصول لهم فهذا الرقص سيتحول لإيقاع من نوع آخر.. إيقاعُ يحرك تروسَ الانطلاق للنور!