الخميادو (2)

سنة النشر : 30/08/2008 الصحيفة : اليوم


.. قلنا في الجزءِ الأولِ يوم السبت الماضي، إن «الخميادو» كانت من أكبر كتشافات القرن التاسع عشر الفكرية المجتمعية، حين تم اكتشاف مخطوطاتٍ بلغةٍ غير مفهومة، وبعد أن فـُكت طلاسِمُها اندهش العالِمُ الإسباني، وقال: «ما أدهى هؤلاء الموريسكيين (بقية العرب الذي قيل إنهم تنصروا بعد أن دُحرتْ الحضارة العربية، وتفشي ظلم الكنيسة ومحاكم التفتيش) لقد عاشوا بعزةٍ فكريةٍ، بعد أن حسبنا لقرون أنهم ذابوا وتلاشوا..».

ولكنه تاريخ متروكٌ منسيٌ من قبل علماء العرب المختصين بالتاريخ والتراث الأندلسي العريق المتخم بالأناقةِ، والحضارةِ، والفلسفةِ، والفنِّ، والشعرِ، والخيانةِ والدم، بقي منها تاريخٌ مُعتِمٌ، ومحرَّف، وبقي بعقولِنا، وفي وعينا على تاريخنا، أن الموريسكيين العرب قد اختفوا، أو تشتتوا في الآفاق.. وأن البقية الباقية تأسْبـَنـَت وتنصّرت وضاعت إلى اليوم.

ولكن لا، أثبت العربُ الموريسكيون أنهم من أدهى الأعراق، وأن التماسكَ والتسارّ الذي سرى بينهم فوق أي قدرةٍ من الجماعات البشرية المسجلة في كتاب الحضارةِ البشرية. لم نعرف مطلقا أن شعبا عِرقيا اخترع لغةً كاملةً يُسجَّل بها تراثـُه، ويتفاهم بها في الخفاءِ، ويقصدون ويغنون بها، ويفسرون كتبهم بها.. أبدا، على الإطلاق، كما فعل العرب الموريسكيون.

سجّل علماءُ المجتمع الإنساني نشوءَ لغاتٍ شِفريةٍ بين عُصـَبٍ وسط المجتمعات، كلغة العصابات التي سادت في شيكاغو في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، أو لغات الجيوش المشفّرة، أو اللغة السرية التي تفشت بين نساء الصين في القرن التاسع عشر (وأرغب جدا أن أحدثكم عنها يوما، عن كيف يتكلم نصفُ المجتمع النسائي لغة سرية لا يفهمها النصفُ الذكوري الثاني، بل إن بعض نساء القصيم في الماضي كن يُجـِدْن لغةً بينهن، تُدَسُّ القافُ فيها بين كل حرفين، وينطقن بها بسرعةٍ فائقةٍ مما يتعذر على السامع فهمها.. ما زالتْ والدتي تجيدها)، كل هذه التجارب لم تسفر عن شمسِ لغةٍ فكرية بهذا السطوع الشاهق كما فعل الموريسكيون.

كيف استطاعَ شعبٌ كاملٌ مترامٍ من شمال إسبانيا إلى حواف المتوسط، مقهورٌ، ومدحورٌ، أن يُقيم لغةً كاملةً استمرت قرونا حفظ بها التراثَ والعلومَ وتعاملاتِ الصناع، والتجارِ، ورجال الفكر، وعلماءِ الدين.. حتى الأطفالُ في البيوت كانوا يلـَقـَّنون اللغة السرية.. ولم يتسرب السرُّ أبدا. فعلا كيف؟! صدقوني يا أعزائي أنها من أكبر ألغازِ علماءِ الأنثروبولجيا واللغات، فمن طبيعة اللغات أنها تنتقلُ كما يجري الماءُ في ضمير الأرض.

لا نعرف بالتحديد كيف بدأت هذه اللغةُ، ولا من أول من بادر في تأسيسها، وأذكّر قرائي الكرام أني لست مختـّصا ولا عالِما، فما أقوله هو ما اطلعتُ عليه في مراجع الأنثروبولوجيا، وكتب التاريخ وأركولوجيا التاريخ «الأجنبيةِ»، حول هذه الحِقبةِ الغامضةِ المنسيةِ بعد خروج فلول المسلمين إلى ثغور شمال إفريقيا مشرّدين.. ولم أجد لها أثرا عند المختصين العرب الكبار، مما جعلني أراجع كل ما كتب الدكتور»حسين مؤنس»، يرحمه الله، العالمُ المؤرخُ المصري حُجـَّة التاريخ العربي في إسبانيا.. لا شيء!

ولكني صرتُ أعلم شيئا بالتأكيد، أنها تركيبٌ عبقري للغةٍ جديدة من لغاتٍ موجودة، ومتفاوتة عبر الزمن.. يا للعبقرية، يا لبراعة التفوق على أصعب الظروف. أؤمنُ أن العقلَ العربيَّ لا يخبو ولا يفتر مهما تراءى لنا أنه هُزم أو سلـّم وثائقَ الاستسلام. كوّن العقلُ العربي في ظل الخوفِ والرعبِ والتنصيرِ والتذويبِ والسفاحِ العرقي لغةً اشتقت من اللغةِ القشتاليةِ السائدة، مع المصطلحات العربية المشرقية على الخصوص، ثم بدهاءِ الماكرين الأفذاذ وضعوا أفعالـَها بالرومانية، واحتفظوا لهذه اللغة الوليدة بالحرف العربي.. لماذا العربي؟ لم أجد جوابا بما قرأت، إلا أني أحسبُ مطمئنا هو كي لا تنسى الأجيالُ نـُطق الحروفِ العربية التي لا ينطقها اللسانُ الأعجمي. ثم سموها «الخميادو».. وتعني بالإسبانية اللغة المعجومة، المبهَمة، المطلسَمة.

إذن لم يتفتت العنصرُ العربي، لم يتنصّر الموريسكيون كاملا كما كنا نعتقد.. بل أثبت العربُ تفوقا في أحط منازل تاريخهم، وتحت نـَيـْرِ ظروفِ الانسحاق والحقد.. وأنّ العقلَ العربي كالذهبِ.. يزدادُ وهجاً وبريقا وأصالة كلما نفخَ فيه أتونُ سعيرِ النيران.

الخميادو.. عفوكِ يا لغة أهلنا المظلومين من محاكم التفتيش ومن ثقوب ذاكرتنا، كنتِ سِرّا، وفشا بك الإسبانُ بكل الأقطار، وأما العربُ فما زلت عندهم في دائرة الجهلِ، أو بئرِ الأسرار.