الخميادو (1)

سنة النشر : 20/08/2008 الصحيفة : اليوم

 

* «العقلُ العربيُ الإسلامي أنشط العقول الإنسانية على الإطلاق..» - العالِمُ الإسباني مكتشف الخميادو.

ما الذي جرى في الفترة التي تلت عام 1609م في إسبانيا بعد أن غـُلبت تماماً الأمةُ الأندلسيّة العربية؟ لم يقل لنا تاريخُنا المدونُ بوضوح؟ لم يخبرنا مختصٌ عربيٌ بما حصل بعد الحضارة الضائعة؟ لا يمكن أن تتبخر كل آثارِ العرب بعد تلك الفترة.

نعرف أنه عاش بعد الاندحار الأخير بقية عربٍ نعرفهم الآن باسم «الموريسكيين»، وهم الذين أجبرتهم الكنيسة و«ديوان الرقابة» على التنصّر.. وخلـْع دينهم الإسلام. و«ديوان الرقابة» هذا هو ما يسميه الغربيون والإسبان على الخصوص، وما نعرفه نحن باسمهِ المُزعزع الرهيب: «محاكم التفتيش». حيث نـُكـِّل بالمسلمين تنكيلاً لا يمكن أن توصف شنائعُه.. ولم نعرف بالدقةِ والتحديد كم من الأرواح أُزهِقت، وكم من الدماءِ فاضتْ.. لأنه عُتـِّم عليه تعمداً لقرون. ونحن، ولله الحمد، كعربٍ نتصفُ بالسلوانِ حتى تنمحي من ذاكرة حضارتِنا معظم ما أنجزته حضارتـُنا.

بعلمي القاصر لم أعرف عربياً مؤرخاً، أو أنثربولوجياً، أو لغوياً، أو عالماً دينيا، أو مختصا بالحضارات بحث بدقةٍ عما صار للعرب بعد تلك الفترة. هل تبخروا؟ هل انتهوا؟ هل انقرضوا؟ هل نزل نيزكٌ وأباد كل عربي بقي بعد الدحْر؟ كل ما نعرفه أنهم تناثروا أشتاتا في أقاليم المغرب العربي بعد طردهم من إسبانيا.. ولكن من المُحال أن يُطرَد شعبٌ كامل، عرفنا أن الموريسكيين بقوا، ولكن الموريسكيين اختلطت بهم عناصر كثيرة حتى ضاعت صفتهم بالهويةِ الغالبة.

ولكن الأجانب بحثوا..

هؤلاء المجتهدون لم يتركوا حزمة زمنية ولو بحجم سمِّ الإبرةِ لم يُعْمِلوا بها بحثا وتمحيصا. وكان شاغلي: أين ذهبَ العربُ؟ هل تنصّروا كلهم؟ هل انمحتْ الثقافة والعلمُ العربيان، هل تأسْبـَنوا كلهم في يومٍ وليلة.. مُحال!

وعرفتُ بعضَ الإجاباتِ من مؤلفاتٍ متخصصةٍ أجنبيةٍ، والذي عرفتُه شيئاً يقارب الخيالَ وذروة الإثارة التاريخية، عرفتُ «الجميادو Aljamiado»، إن قرأتها كما يُقرأ بالإنجليزية، ولكن في النطق بالإسبانية تقلب «جي» اللاتينية إلى حرفٍ بين الخاءِ والهاء، وأحيانا الياء.. لذا أنا أميل إلى أن أسميها «الخميادو».. ومن سيسميها «الهميادو»، فلا بأس.

«الخميادو» كانت سرَّ أسرار العربِ، وهي التي حافظتْ علي هويتهم الدينية والعربية في بحرٍ طاغٍ من المسيحية والطغيان الإسباني.

ولا بد أن تعرف كيف عاش هؤلاء «الموريسكيون» الذين كنا نحسبهم تنصّروا. الحقيقة أن الكنيسة و«ديوان الرقابة» طلبوا من المسلمين التنـَصّرَ بلا خيارٍ آخر إلا الطردّ أو الموت.. وصار المسلمون يذهبون أيام الآحادِ لقدّاس الكنائس، وهم مرتبكون مرتجفون تحت رقابة جواسيس وضواري محاكم التفتيش، وأن يتظاهروا بتمجيدِ الصليب والقديسين وأم الربّ الناصري، وأجبروهم على شرب الخمر وأكل الخنزير علنا.. وألا يذكروا اسم نبيهم محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام.. بل إن من يغتسل منهم لأي سببٍ ثم يتجه جهة الشرق (القبلة) يؤخذ للأقبيةِ المظلمةِ المُعْطنةِ فوراً للتعذيبِ حتى الموت. ثم زاد جبروتُ الكنيسةِ وصاروا يخلعون الحجابَ من على رؤوس العربياتِ في الميادين والجاداتِ وأي غطاءٍ على الرأس، إلا إن كان القبعة التي ترتديها نساءُ الإسبان. ولكن بقيت لهم اللغة العربية يتحدثون بها زمنا.. إلى أن فطنَ دهاقنة الكنيسة إلى خطر اللغة على تماسك العرب ورفع روحهم المعنوية، وبعامٍ كئيبٍ على العرب وهو عام 1526م ، وكان الحاكمُ امبراطورا حقوداً اسمه «شارلكان» كره الإسلامَ والعربَ بكل قطرة دم تجري في عروقِه، وعاضدته الكنيسة، فمنع العربية.. على الإطلاق.

وهنا المنطقة المعتمة في تاريخ العرب الموريسكيين..

ماذا حدث؟ ماذا جرى؟ ما الذي صار؟ لم يعلم أحدٌ ما آلَ إليه حالُ العربِ حتى أول القرن التاسع عشر حين اكتشفَ مجموعة علماء إسبان مخطوطاتٍ بلغةٍ غريبة بأحرفٍ عربية.. إنها لغة «الخميادو»، سرُّ العربِ الدفين.. لغة اخترعوها لأنفسهم بينهم ليحافظوا على وجودِهم العقلي والديني والاعتباري.. ولما بدأوا يفكّون رجومَها صرخ عالمٌ كبير بعد ذلك: « ياللدهاءِ.. ياللروعة.. إنه فتحٌ جديدٌ في تطور اللغات وتحايل الشعوب.. لقد كان ذكاءُ الموريسكيين فوق كل ما تصورنا..».

وألقاكم يوم الإثنين المقبل، لنعرف ما الذي جعل ذاك العالمَ يطير عقلـُه دهشة.. وما فعلت الخميادو للموريسكيين؟ وما فعلوا بها؟.. ثم قبل أي شيء: ما هي؟!