سنة النشر : 29/07/2008 الصحيفة : اليوم
.. ذهب السيد عبدالكريم للمغرب، وهو يحب أن يسأل ويلاحظ، ودائما يريد أن يفهم، ولا يريد أن يكدّ في البحث لأنه مشغولٌ بأشياءٍ أخرى، فها هو يرسل لي رسالة هاتفية: «نجيب، أريد إجابة سريعة عن الدراويش، ومن هم في المغرب، وهل لهم فلكلور معين؟ فأنا أقرأ في كل مكان: حانة الدراويش، ركن الدراويش، وقال لي صاحب التاكسي: إني درويش.. ولولا أني أحمل طفلي الصغير بيدي وأجر بنتي باليد الأخرى، وزوجتي لاهية بالتحدث بالإشارة للمغاربة مع تأكيدي ألف مرة لها أنهم يتكلمون العربية، لبحثت عن الموضوع بنفسي..(!)»
وكان الموضوع شيقا لما بحثتُ فيه، واتفقنا هو وأنا أن نشارك القراءَ في موضوع جميلٍ وذي مغزى، ولا أريد أن يعتقد أحدٌ أننا نمس نواحي أو نظرات دينية مطلقا، وإنما نعالج شأنا فلكلوريا طريفا صِرفا.
والدراويش هم طائفة صوفية خرجت من عباءة التأمل الصوفي من المذهب المالكي بالمغرب، وشطت عنه شطا بعيدا. والمتصوفون طبقتان رئيسيتان: المنعتقون الناسكون، والجائلون بالأرض وقاطنو الزوايا، والأخيرون هم الدراويش. المتأملون المنقطعون هم أهل السكون والعلم وتوخي الإشراقات المعرفية تلك التي تسقي بلغتهم نسغَ الروح، وتقود مع الانقطاع والعبادة للاتحاد مع عناصر الكون تمهيدا للرحلة الأعظم رحلة التوحد العليا، وهي شطحاتٌ لا تعنينا..
والدراويش هم الأكثر حياتية، والأبهرُ ألوانا، والأفعمُ حركة، والأبعدُ عن الانقطاع بالاختلاط في الاحتفالات والمهرجانات والسير في الأحياءِ وإقامة المناسبات والشعائر مرددين أشعارا غنائية لكبار المتصوفة، وبالمغرب قد يتلون شيئا للسهروردي، أما معظمها فمن الموشحات الأندلسية والرجز الخفيف بكلمات وألحان بعضها فصيح، ونوع مخلوط بالفصيح ربما لعدم دقة النقل، ونوع باللهجات الدارجة المغربية، وإن كانت اللهجات المكناسية والفاسية والماركشية هي الغالبة، ويميلون بالألحان والموشحات والطقاطيق في استخدام اللهجة المراكشية الأفخم في نطق الحروف..
وأغانيهم وأهازيجهم حركة مشهدية تسر العين وتفرح الخاطر متى أخذتها من النظرة الفلكلورية والإمتاع والمؤانسة ( على رأي معلمنا أبي حيان التوحيدي) لأنها مشحونة بالحركات التمثيلية، واللفتات الراقصة، والهزّ الجماعي، وتطويح الرأس الشهير، ولن تعدمها في المغرب وكثير من أنحاء شمال الجزائر وأطراف تونس، ونواح من مصر، فهي متواترة في زوايا الصوفية وخلواتهم، وأتباعهم من «المريدين»..
وفي مكناس حرصتُ أن أحضر زاوية لجماعات الدراويش في مهرجان موسمي لأحد شيوخهم وله أغنية وتغنى بصوتٍ به كثير من سحب الصوت من آخر الرئة مع الرنة الحزينة والإيقاع المتجاوب والقفلات المكررة ، والأغنية تقول:
سيدي يا سيدي يا معمر الجبال الخالية
قطابة أيا سيدي كيف العنقود في الدالية
أسنان أيا سيدي كيف الجوهر جابوه التاجرين
صبعان أيا سيدي كيف الأقلام في أيادي الكاتبين
صدرك أيا سيدي كيف الألواح في يد الطالبين..
ولن يصعب عليك فهم القصيدة، خصوصا متى عرفت أن كلمة «كيف» بالدارجة المغربية تعني «مثل، أو تشبه»، ويختلط على السامع هنا: أهو تطويب للشيخ أم تغزل به؟ وهذا شأنُ الوجدان الصوفي حين يختلط النِسكُ والعشق..
أما صاحب سيارة الأجرة الذي نعت أخانا عبدالكريم بالدرويش، فيبدو أنه رقيق القلب، لأن عبدالكريم كسر خاطرَه ربما لشقاوة الدراري (الأطفال)، وتركيزه على كل ما يراه فيفقد التركيز على ما حوله.. فوصفه بالدرويش، أي : حالتك حالة يا مسكين!