بطولات أسماء

سنة النشر : 09/11/2005 الصحيفة : اليوم

 

نتابع قصة أسماء بنت أبي بكر من إيحاء القارئ الأديب طارق العريفي من البحرين..

لقد دارت الشكوكُ حول تعدد خروج البنت الصغيرة أسماء، واستنتجت قريش أن وراء البنت سراً تبالغ في إخفائه. ربما يكون السرُّ الذي أرهقهم البحث عنه، مكان الرجلين العظيمين، الرسولُ الكريم وأبو بكر..

وبينا هي يوما تقترب للغار محملة بالطعام والأخبار للنبي وصاحبه، إذ يداهمها رأس الشر، وداهية الظلم، ورافع لواء الحقد على الدين البازغ، أبو لهب.. واعتقد الجبَّارُ أن البنتَ الضعيفة ستطير نفسها جزعاً وتصبُّ كل معلوماتها.. على أن ثباتها فاجأ الظالمَ، كما يفاجئنا حتى الآن من بنت عربية صغيرة تقع في الصحراء عزلاء بين رهطٍ من أغلظ الرجال..

لقد تميز أبو لهب غيظا، وطارت كل محاولاته في إخراج كلمة من الفم الصغير، حتى جُنَ غضبا، وهبطت يده الآثمة بلطمةٍ على الصدغ الصغير.. فداخت وتمزقت أذنها وسقط قرطُها، لم تنطق بكلمة.. وإنما البكاء من هول الألم. هذه البنت الصغيرة مكنها الله ُ من حماية أعظم الرجال قاطبة، وحماية أعظم الأديان قاطبة.

.. وهل تنتهي بطولات أسماء الأسطورية؟ فإنما حياتها سلسلة لا تنقطع من البطولات، غير أن أشدها ثباتا ورباطة بأس وتصميما يفلَُ الجبال، هو يوم دفعت ولدها عبدالله بن الزبير، عصارة قلبها، ونور عينيها لذي غار، دفعته دفعا إلى الموت.. ولم تسلمه ملـَك الموت، أو معامعَ الحروب، بل إلى أضرى أعدائه، الحجاج بن يوسف الثقفي، أسطورة الجبروت والتشفي والغلَ.. وهي تعرف أن الحجاجَ سيمضغ لحمه ويقطعه ويمثل به شر تمثيل.. إلا أن هذا القلبَ لا يعرف إلا الحق. وهي تدفع ولدها لموتٍ رهيبٍ، قد حكمت على نفسها بعذاب أشد قسوة ..

الذي يشدَ أوتارَ القلب أن ولدَها، جاء يترحمها، وصدته ولم تترك له إلا مخرجا أوحد .. الموت. ترحمها لتتوسل له العذر كما أشار له أصحابه في الفرار بنفسه، وهو الحاكم القوي الذي دانت له دولة الإسلام ما عدا الشام ضد الأمويين، وهو الذي أرهب جيوشهم حتى كاد مروان بن الحكم يسلمه الحجاز اتقاء للنصب الذي تلاقيه جيوشه من قوة ابن الزبير، لولا أنه مات، وتسلم ابنه عبدالملك بن مروان الذي كان هدفه الأول القضاء على ابن الزبير، واستعان بالحجاج، وكان قرارا له شديد التوفيق.. حيث فتك الحجاجُ بكل ما يلقاه، ولم تسلم منه حجرة في مكة.. ولا حجر الكعبة

عرفت أسماء أن ابنها نـُزع رأسُه وصلب وعلق على الثنية.. فلم تتحرك من منزلها، وكان الحجاجُ يعتقد أنها ستأتيه وستتوسله ولم تفعل. فما وجد نفسه إلا وهو يذهب إليها.. ورفعت رأسها بافتخار وهي عجوز عمياء.. وقالت للحجاج: "انظر إلى ابني، حتى في موته، يشاء قدره أن يرتفع فوق الرؤوس.. أما آن للراكب أن يترجل!"

قصةُ بطلة ٍلا أجد أقوى منها عبرة وهزا للشعور، منذ ذاك اليوم البعيد إلى يومنا هذا.. يا طارق!