هكذا علمتني الأيام (10)

سنة النشر : 04/08/2016 الصحيفة : الاقتصادية

 

احذر مما ستكون عليه شخصية المعنف:

اليوم سأحدثكم عن شخصيتين إحداهما قريبة عندي والأخرى شخصية كبرى كلتاهما في ظرف مشترك، وهو أنهما تعرضتا للعنف في صغرهما.

الشخصية الأولى:

درس معي وليد (الاسم مستعار) الصف الأول الثانوي، وكان يأتي مثلوما، وعلى صدغه قطعة بحجم الكف محتقنة، وأحيانا يأتي المدرسة وهو يعرج، ومنتف شعر الرأس، وأحيانا ينقطع عن الدراسة، فصرنا نعرف أنه في المستشفى، وعرفنا أن من يقوم بفعل هذه الشنائع به هو زوج أمه، لما جاء في فصلنا وضربه ضربا مبرحا، ثم لكم المدرس الذي حاول أن يساعد الولد المسكين.. وقبل أن يخرج بعاصفة غضب فلق رأسه بكرسي الدراسة.

وليد كان أشطرنا جميعا، يتفوق في الرياضيات حتى على مدرسنا أحيانا، ثم يأتي مدرس النصوص، وإذا هما يتناقشان بتفعيلات الشعر، ومن كان أول من وضعها أهو الخليل بن أحمد، أم بدوي علمه فنون هندسة الإيقاع الشعري العربي، ثم أنكره الخليل بن أحمد، وهذا ما كان يقوله وليد، ويسند رأيه بقصائد ومراجع. ثم يأتي فصل الإنجليزية وكنت أتفوق عليه في الشهور الأولى وأنتشي، ثم أنه عكف على دراسة اللغة الإنجليزية وتفوق ببراعة، حتى أنه التحق بشركة أمريكية براتب عال لأنه ترك المدرسة، أو ربما هرب من أبيه. مرت الأيام، وصرح لي أكاديمي كبير بأن عنده بروفيسور في علم تقني متقدم وعبقريته لا تضاهى، وأنه ينفع الجامعة بأبحاثه التي تتنافس المجلات العلمية الكبرى في العالم على نشرها، ويلفته ولع الطلاب به ولعا أقلق المسؤول الأكاديمي، وخاف أن يكون حزبيا. وكان منع الشباب عنه شبه مستحيل لجاذبيته وقدراته القيادية وفي الوقت نفسه هو شخص مقيت، قبلي للنخاع، وطائفي صريح، ويميل للعنف المؤذي حتى مع زملائه. في يوم كلمني طالب من الجامعة لاجتماع يعقدونه مع بروفيسورهم، وأن البروفيسور حريص على رؤيتي. لما وصلت مررت على صديقي الأكاديمي المسؤول وأخبرني بأن البروفيسور الذي سأذهب إليه هو ذاك الغريب الأطوار العبقري. لما دخلت قاعة الاجتماع صعقت.. فهذا هو وليد زميل دراستي المعنف. ورأيت تعلق طلبته به، وعلمه العميق الذي زاد، وتألق عقله بشكل نادر. ولكني لم أرتح لعيني الرجل ولا لحديثه وأحلامه لما جلسنا وحدنا. خرج من الجامعة، ثم مرض مرضا عضالا أنهى حياته ــ يرحمه الله.

الشخصية الثانية:

الشخصية الثانية شهيرة جدا وتاريخية، مرت بالدوائر الحياتية ذاتها التي مر بها البروفيسور وليد، مع إضافات أكثر نعومة، ونتائج أكثر هولا. الصبي هنغاري نمساوي، لما كانت الدولتان إمبراطورية في وسط أوروبا ثم تفتتت بعد الحرب العالمية الأولى، ولكون الإمبراطورية سلافية قُطعَت فيما بعد لشخصيتنا معرض حديثنا. الشخصية هذه ولدت لأم شقية، الزوجة لموظف جمارك ولدت منه ابنها الوحيد، الذي رأته رسالة خير من السماء. على أن ما قدر لحياتهما لم يكن مطابقا أبدا لأحلام الأم، لأن "ألويس" الزوج انقلب شخصا عنيفا على ابنه الصغير يضربه بالكرباج حتى يسلخ جلده. كبر الفتى شخصا حالما رومانسيا رقيقا خجولا وتمنى أن يصير موسيقيا، فخرج من المدرسة في عمر مبكر (مثل وليد) وحاول الانتساب لمعهد موسيقي، متأكدا أنه سيصير فنان العالم الأول وتكتسح موسيقاه القارات والبحار. أما خجله المتعدي فيظهر شاهقا بأنه افتتن بالبنت "ستيفاني جانستن"، وكانت حب حياته، لم يحب امرأة غيرها. ولكن خجله منعه أن يتفوه بكلمة واحدة معها رغم إلحاح صديقه، الذي كتب كتابا، بالحديث معها. ترك قريته محاولا الالتحاق بمعهد الموسيقى في فيينا دون أن يجرؤ حتى النظر لحب كل حياته. يا ربي، يكسر الخاطر، صح؟

المهم لو قبل في معهد فيينا للموسيقى لتغير تاريخ العالم، ولما لم يقبل في المعهد التحق بالجيش، وهناك نبتت من داخل الرجل الناعم أفظع شخصية رهيبة متوحشة في التاريخ.. هو أدولف هتلر، زعيم الرايخ الثالث، وألمانيا العظمى.

ــ هل هناك أنماط محددة للأمراض الذهنية؟

من وليد وهتلر نرى التضارب في الشخصية من أقصى الذكاء والرومانسية لأقصى القيادة المهيبة والتوحش الشخصي.. انتبهوا يا مختصين لارتباط التعنيف بأمراض كفرط الحركة وتشتت الانتباه. انتبهوا جيدا، كي لا تتكرر ظاهرة "دكتور جيكل ومستر هايد"، فيصير الطيب.. شيطانا!