هكذا علمتني الأيام (9)

سنة النشر : 21/07/2016 الصحيفة : الاقتصادية

 

لا تغادر بيتك:

والبيت هنا ليس البيت الذي تقطنه، بل البيت الذي بداخلك، نفسك، أنت، كما أنت بنسختك الأصلية.

هناك أغنية آشورية قديمة من حضارات ما بين النهرين في العراق الحالي تقول:

لماذا توقف الإنسان عن الإشراق كشمس الصباح؟ لماذا توقف الإنسان عن الألق كزهرة الصباح؟ لماذا توقف الإنسان عن الصدح بأجمل النشيد كطيور الصباح؟ لأن الإنسان لم يعد هو كما هو، صار الإنسان يقلد، ومنذ بدأ التقليد، تقليد الإنسان لشخصية غيره، شخصه صار غريبا ضائعا.. وبلا بيت، بلا مأوى، بلا ملاذ.

وقوم الزن الصينيون القدامى يقولون: "لا تغادر بيتك الأصلي، ولا وجهك المخلوق لك". وكلها حِكَمٌ صعب علينا كبشر التقيد بها، لذا تجد معظم الناس تائهين بلا شخصية بلا إشراقات فردية، بلا استقلال دماغي وروحي ومبدأي، لأنهم دوما يبحثون عن أشخاص يقلدونهم ويقتدون بهم، وهذا الآن شاع واستشرى مع قوة وسطوة تسونامي المعلومات، فضعنا بين آلاف آلاف البيوت. أين نحن؟ لا نعلم من نحن بالتحديد؟ هل أعرف بيتي الأصلي أم أني لا أرى إلا بيوت الآخرين؟ هل يعجبني وجهي، أم أني أبحث عن وجهي في وجوه الآخرين؟

علمتني الأيام أن الناجحين الرواد هم الذين اهتدوا لبيتهم الأصلي وتمسكوا به ودافعوا عنه بل دعوا إليه، وهم من قاد البشرية في مجالاتها المختلفة. كوبرنكس الراهب المسيحي البولندي لم يستطع أن يقلد رهطه من اللاهوتيين والرهابنة، فاستفرد بعقله وقال بكروية الأرض وإنها تدور حول الشمس، وإنها نقيض ما تقوله كنيسته إنها مركز الكون ومستوية وأن الشمس هي التي تدور حولها، فبدأت أكبر معرفة علمية على الإطلاق في كل تاريخ العلم، وقاد العالم لمرحلة جديدة استغرقت قرونا. الأنبياء والمصلحون والعباقرة المخترعون، وكبار الكتاب والمفكرين أصحاب المدارس المستقلة غيروا العالم بشكل لن يعود كما سبق معرفته من قبل. هؤلاء أناس عرفوا بيوتهم الأصلية ولم يغيروها، عرفوا ملامح وجوههم وتمسكوا بها. لذا أقول لنفسي ولكم، تعبنا من طرق أبواب بيوت لآخرين لا تفتح لنا، أو تفتح لنا عند عتباتها أو تطردنا من عند عتباتها، أو تدخلنا بشروطها. إن بيوتنا الأصلية اشتاقت لنا أبوابُها فهيا نرجع إليها، إن وجوهنا الأصلية تجاهد لتعطينا ملامحنا الأصلية، فهيا نعود للأصل. ومن هناك ستغير في نفسك، في بيتك ووجهك.. وهكذا يتبدل العالم.

هل يمكن لأي منا أن ينسى قدرة الله؟

لما نوقن أن قدرة الله تعالى أكبر من كل ما حدث في ماضينا، ويحدث في حاضرنا، وما سيحدث في مستقبلنا، عندما نوقن أن قدرة الله أكبر من كل أخطائنا وأنه قادر أن يديرها لمصلحتنا، عندما نوقن أن البعض سيؤذونك وأن البعض سيخطئون عليك والبعض سيظلمونك، وتتركهم لقدرة الله ليأخذ حقك منهم وتمضي بحياتك دون أن تلتفت لهم، وعندما تمرض وتعلم أن قدرة الله تشفيك، فتتناول دواءك وتمضي في درب الشفاء؛ فمم تخاف إذن، وقد امتلأ قلبُك بالثبات، وحررت استطاعتك من كل قيد وكل ما يصدّ انطلاقاتها لتشيد بناء وجودك الأصلي في هذه الحياة. لا خوف إذن، لا مجال للخوف.. ومن لا يخاف فلن يقف في وجهه شيء.. أي شيء.