أبحِرْ جيدًا يا دكتور خالد
سنة النشر : 01/05/2009
الصحيفة : الاقتصادية
إدارة الميناء، أي ميناء، تختلف عن إدارة أي منشأة أخرى، معروف في كل العالم أن للميناء خيالا ظرفيا، ومكانا جغرافيا، وقدرات استيعاب، وتصوراً عاماً من المستخدمين، والمنتفعين والمشغلين، وقباطنة السفن، وعقلية الإرشاد. لكل ميناء في العالم شخصية بذاته، وهي إذن حقيقة واقعية أكثر من كونها فرضاً أكاديمياً. والموانئ هي أهم مرافق حركة المواصلات، والنقل والتجارة، والصناعة على الإطلاق، وهناك موانئ تقوم حولها المدن، وهناك موانئ جاءت لأن هناك مدناً، وهناك موانئ صنعتها ظروف، مثل ظروف الحرب، أو تقسيمات السياسة، أو تطور وسائل النقل والمناولة ونمط الاستخدام.. وإدارة الموانئ ليست معرفة طاقة التحميل والتفريغ، أو سعة المستودعات، أو ساحة المستودعات.. الميناء مجتمع متكامل بدءاً من الناس، إلى المرافق التحتية، والبناء الفوقي، ونوعية وقدرة المعدات، ثم فلسفة كاملة، ونظرة شخصانية شاملة لكل ميناء على حدة.
الموانئ دراسة وتقنية وتاريخ وانطباعات بشرية، وخصوصية إفرادية، وهذا الذي يفهم مغاليق هذه العناصر متحدة، نسميه رجل الموانئ، وللموانئ غير كل المنشآت على ظهر الأرض طبيعة خاصة، وفهم خاص، واستعداد خاص، وهو ما لا نقوله عن منشآت أخرى، فلا نقول رجل مطار، ولا رجل شركة، قد نقول بالوصف العام رجل نقل أو صناعة.. وبلا رجل الموانئ المؤهل شخصيا وعقليا وتعلقا بمفهوم النقل البحري لن ينجح مهما فعل.. ليس الميناء مجرد عمل منزلي بحثي، ولا تسرع في فرد الخطط، واستعراض المخزون القريب من المعلومات، بل هو التريث العميق قبل الطفو، أو هو الصبر الصامد حتى لا تغرق المركبة، نوع من التفكير مختلف، ليس يُعنى بالغرق في التفاصيل والحسابات والاجتماعات، فهذه تترك للمنفذ في الدرجة الهرمية التي تلي، إنه الصبر على النفس قبل التصرف الترؤسي..
كم أتمنى لو أن الدكتور خالد بوبشيت رئيس الموانئ الجديد، أُعطيَ مهلة كافية قبل تكليفه بالمنصب ليتفرغ لاستيعاب المفهوم الظرفي والاقتصادي والتاريخي والنوعي للموانئ، ثم أخذ التفصيل المناسب لنسج الثوب الإداري التطويري المناسب، فالاعتكاف الدراسي والتطويري النظري من أجل الموانئ، سيكون مطابقا للمثل القائل "ومن الحب ما قتل".
لو أن الدكتور خالد أمضى سنة متفرغا لدراسة كل ميناء في المملكة على حدة، ومن بعد يتنقل في موانئ مختارة في العالم آخذا وقته لاستيعاب الفلسفة والرؤية التي سميناهما شاملتين لكل ميناء في اختيار منضود أمامه في كل نوع، سيجد أنه لا يمكن مقارنة النمط الإداري في ميناء شنغهاي، بالنمط الموجود في ميناء نيويورك، فهناك قصة وهنا قصة.. وإني أعرف أن قصصا عالمية وصينية دارت من ميناء شنغهاي لأنه كان مجتمعا رديفا كاملا بنوعيته وهيئته، بينما يبقى ميناء نيويورك مهما كبوابة بشرية وبضائعية بلا قصص ساكنة وإنما تجارب بشرية عابرة.. وميناء شيتاكونج البنغالي وممباي الهندي يداران بصورة مطابقة من داخل الميناء اعتمادا على المدد البشري بنمط المفهوم التقني وهو إتقان لا يعيه إلا رجل ميناء من نمط عاش في الظرف والداعي.. وبينما يبقى ميناءا سنغافورة وهونج كونج بنفس الفلسفة والنظرة الشاملة في كونهما ميناءين إبدالين تدور تروسهما حول التسلم ثم الإدخال للبر ثم إعادة التصدير إلا أن طريقة تشغيلهما الفني تختلف كل الاختلاف، والسبب تاريخي وظرفي وبشري وموقع مائي جغرافي.. لذا المثل الذي يقوله الهولنديون وهم سادة الموانئ والسدود البحرية صحيح بأن رجال الموانئ نبتات تنبت من شقوق الأرصفة.. ولن أجد أكثر حنكة من هذا المثل من أكثر رجال الموانئ في العالم دراية، واسأل روتردام.
إن خرق دائرة كسب المعرفة المينائية - برأيي الشخصي - هو أن تبدأ من وسط السلسلة، فمبكر جدا السماع للمنتفعين والمستخدمين مثل الغرف التجارية، فهم سيعطون إشارات تخصهم ولا تخص الميناء، وستجد إشارات أخرى عند الوكالات وممثلي الخطوط البحرية وعند المخلصين وعند الجمارك. ومن المبكر أن نخرق التسلسل في أن تكون الموانئ دجاجة استثمارية فهذا يا دكتور برأيي – الضحل!- كما يُقال في الدراسات، منتج جانبي By product ، لأن المنتج الرئيس هو الذي يأتي من البحر، وهو الدور الرئيس.. لو كنت مكان الدكتور خالد، فقد فاتت مرحلة التعلم المتأمل العميق، لعمدتُ حالا في الاجتماع الطويل مع رجالاتي قبل أن أحكم حول كون موانئنا مؤهلة مثل دبي أو غيرها، وأجد غريبا أن نعتقد أن التجارب الأخرى تسبقنا بينما تصرح الموانئ أنها كسبت جوائز أحسن أداء في موانئ المنطقة، كما أعلن مرارا.. أين الحقيقة؟ لنقل الإحساس ألمينائي ومكاشفة التاريخ وسماع الرأي الأول ثم الاتجاه للعملاء، أقترحُ الاستفادة من رجال الموانئ الكبار مثل محمد عبد الكريم بكر، ومحمد علي ناصر الغيثي، تكون أمرا محمودا، مع متمرس مينائي عريق يمثل الضفة الأخرى مثل وهيب بن زقر، فقد تشكل محاور أساسية.
أرجو الدكتور أن يذهب في أول زيارة لأي ميناء قبل ما سماه بيت الموانئ في الرياض، وينظر إلى جدار الرصيف المواجه للبحر، وسيجد المصدات البلاستيكية الصلبة معلقة به، وهي آخر تخوم أي ميناء على البحر، وأولها إلى البر.. ويرى بشمولية أن أي إدارة لميناء يجب أن تكون من جناحين: إدارة ما بعد المصدات، وهي الإدارة والتطوير والتنظيم الداخلي على أرض الميناء، والجناح الإداري الآخر المختص بما وراء المصدات، وهو الخاص بما يجري في البحار وما وراء البحار، وهو عالم معقد ومتقدم ومتغير ويعرف تحالفات الشركات ومحطاتها عبر العالم، والاتفاقيات الجديدة في أسواق مفتوحة وتقنية السفن وإداراتها الداخلية، وجاذبيتها الدولية أمام شركات النقل الكبرى.. فلكل قبطان أو صاحب شركة في النقل البحري أنف خاص يا دكتور يميّز فيه ما يجب أن يرسو بسفينته وبحارته.. وأريد أن تسأل كل مَن ذهب لمؤتمر، ماذا تعلم؟ وبماذا أفاد؟ وأين دراسته أو تقريره أو ملاحظاته؟ الإبحارُ يحتاج "نوخذة".. بالضبط يا دكتور، هذا المفهوم لم يتغير. تطور؟ نعم!