عبدالله يعود إلى عنيزة

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية


عندما غادر عبدالله بن حمد الزامل عنيزة من عقود إلى البحرين، هل دار بخلده أنه سيعود يوما؟ وأن أبناءه سيقفون يوما، والمدينة التي غادرها طلبا للرزق، ستحتفل لأنهم زرعوا في عنيزة، قبل أعمال الخير والمشاركة الاجتماعية، قلوبَهم.. حيث جرى يوما أبوهم في أزقتها، وتحت ظل أسواقها الضيقة، وتساند مع أترابه على جدرانها الطينية للبيوت المتلاصقة لعائلات عنيزة.. والآن تجري قلوبهم. وهذا يدل على أن الأب لما غادر عنيزة البلدة الغاطسة واحة خجلى في رمال شمال الجزيرة، إنما ترحل عنها بجسده، ولكن قلبه أو جزءاً من قلبه مجبولاً مع الروح بقي في مدينته الأولى، في مراتعه وملاعبه. غادر الرجلُ، وبقي القلب والطفل.

لذا لم يكن إلا من طبائع الأمور كما ينتقل الجين، هذا الدفق الكيماوي الحيوي، من الجيل للجيل، أن يجري في دماء الأولاد والبنات حب أبيهم الأول.. وحبهم الأول. إن عنيزة وهي تكرم أبناء رجلها الذي غادر ولم يغادر، إنما تعطي مثلا بازغا أن للناس ضمائر لا تخبو، وأنهم رغم تداول الزمن، وتوارث الأجيال، يبقون ذاكرة المدن، وقلبها النابض.. على أن المدينة ليست مجرد محبوبة، الحقيقة أن المدينة الأصل، المدينة الأولى، هي الأم.. لأن بها روح الأم وحدبها، و.. وجوب البر بها. إذن عبدالله ، بأبنائه، يعود إلى عنيزة.. الأم.

إني لا أكتب مترددا عن عنيزة وعن أسرة من آل الزامل، لأن المقصد القريب تفهمه أنت قبل أن أنكره أنا، والمرمى الأبعد هو ما يجب أن يتحقق في المدن كافة، من قـِبـَل النابهين والناجحين والمتفوقين من أبنائها في كل مجال وفي كل مضمار. إنه تقليدٌ أرجو أن يشيع في البلاد. لا، ليس كما تدور قوة القانون، ولكن كما يتطاير مع الأنسمة عبقُ الأعراف وبقائها عنصرا لا يزول في الجو وفي العروق.. حتى لو لم تـُقـَنـَّن على قرطاس.

إن ما قدمه أبناءُ عنيزة من أسرة الزامل أو العليان يعمله آخرون، من البسام والقاضي والسحيمي وآخرون، وسيتزايد، كما يتنافس في مضمار الخير الخيِّرون.. وليس فقط في عنيزة والقصيم، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، ما يفعله آل الجبر في منطقة الإحساء، وأل المطرود والسيهاتي في سيهات، وما قرر أن يقوم به أبناء أحمد الدوسري وهم شباب يريدون أن يروا مدينتهم تضاهي المدن الكبرى حُسْنا فتقدموا بمشروع ميدان للمدينة، وانعكس بهجة على نائب أمير المنطقة الشرقية الذي غير اسم الميدان تواضعا وتقديرا وعملية. وآل الشهيل، وآل الجميح، وكثيرون من العوائل الكبيرة تعود لمناطقها الأولى، وتسقيها ليس فقط إرواءً من مصابّ المال، ولكن شغفا وحبا من نسغ القلوب. وهذا من أروع مضامير الأسبـِقـَة وأبهاها وأنورها.بل إن صديقا لي من آل البسام، قال لي إنه مر بحالة ضيق جرّاء أمور اكتنفته، حتى عن له أن يأتي لمدينة أهله عنيزة، وعمل على إقامة مشروع خيري: هاتفني من مكانه في عنيزة، وقال لي: "عملت مشروعا خيريا باسم أبي، أتدري ما شعوري الأول؟ أن صدري صار بسعة الدهناء" ولا عجب! وهذا إحساس حلو أتمنى أن يذوقه كل واحد منا.. وكلنا يقدر؟ ماذا قلتُ؟ كل واحد منا كيف؟ وليس كلنا نملك ذلك القدر من المال.

انتشار المنزعُ الخيري على المستوى الفردي، قد يكون في مصباته النهائية أكبر مما يفعله مجموعة يسيرة من العائلات أو الأفراد، إنه تجمع الجداول الصغيرة لتكوِّن المصبَّ النهري العظيم. وقد لا أكون مبالغا في التفاؤل حين أقول إن هذا قد يكون أجدى في استمراره ومدى طيف تأثيره. لنرَ. أنت طبيب، ما رأيك في العطلة أن تقضي جزءا منها في بلدك؟ قرية في الشمال، أو في عسير، أو نواحي القطيف، أو جزيرة في البحر الأحمر، أو حتى هجرة منسية بين الكثبان ووسط البراري، وقدمتَ كشفا وربما علاجا للناس هناك، تصور فرحة البلدة بك، ثم تصور فرحتك وعظم إنجازك.

وأنت ممرض وستقوم بالشيء ذاته بلا نقصان، وأنت مهندس، وأنت مهني، وأنت واحد من الناس تستطيع أن تفعل شيئا قد تظنه صغيرا أو ضيقا، ولكن حاذر أن تراه مخجلا أو محرجا، لأن عليك أن تتذكر إنما البحرُ قطرات وقطرات. وقلنا إن الحوض العظيم من شرايين ماء الأرض الدقيقة.. إن تكريس هذا كما التقليد أو الأعراف سيقدم نهضة تطوعية وحضرية وإنسانية وتقدمية قد تفوق أي حساب قريب، أو خطة بعيدة.

إلى كل من رحل يوما إلى بلدته، أو رحل أبوه أو جده، كما فعل عبدالله الحمد الزامل وأترابه ليتصيدوا فرص الحياة والنجاح والرزق، ومهما كان مستوى نجاحك، ومهما ضاقت أو اتسعت دائرة مقدرتك.. تأكد أن عروقا تنبض هناك في الأرض الأولى وهي لا تناديك فقط لتغذيها، ولكن عندما تذهب إليها وتقوم بعملٍ بارِّ بها مهما تضاءل، لو مجرد زيارتك واستخدام مرافقها، ستكتشف شيئا جديدا.. أنك أعدت شحن روحك وكينونتك.. لأنك تقف على أرض فيها تاريخك وتركيب كل خلية فيك.

أكنت قطرة، أو رافدا، أو جدولا.. أو كنت بحراً، فلك نفس القوة نفسها، والتأثير ذاته، وستشعر بمقدار الرضا ذاته الذي يعيد موضعك أمام نفسك، وأمام الدنيا.. والأهم: أمام الله.