كولا فـِش!

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أقرأ استطلاعا عن الساحل الشرقي من المملكة، والاستطلاع قام به جغرافيٌ أمريكي من الناشيونال جيوغرافي، ودراسة لصالح هارفارد الأمريكية.. ولما وصل إلى وصف الشواطئ، قال إن الشاطئ الممتد من الخفجي شمالا حتى رأس تنورة هو أصفى ماء بحرٍ رآه في حياته، وكتب شعرا عن رمال الخليج البيضاء تحت عنوان "عناق الماء والتراب الأبدي".. لم يكن الاستطلاعُ بعيدا، لقد ظهر في عام 1965 الميلادي.
 
وكنت قبل أيام مع شباب صغار من برنامج (إثراء) الذي تعده وتنظمه مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله لرعاية الموهوبين، وكانوا يحدثوني عن تعلمهم فنون الغوص في خليج نصف القمر، وكان معهم المشرف وهو غواص سعودي محترف.
 
وما قاله الصغار مؤلم فعلا.. حتى أن تعابير وجوههم الصغيرة كانت فائضة التعبير عن حجم التلوث الذي صادفوه في قاع البحر القريب. قالوا إنهم بحثوا عن السمك ولم يجدوه، ولكن وجدوا قوارير الكولا الغازية فأطلقوا عليها "الكولا فش"، وعلب اللبن والحليب والشوكولا وسموها لبن فش، حليب فش، شوكولا فش.. وأنهم رأوا حافلة بكاملها في القاع وسموها حوتا، ولا أنسى "المفطـَّح فش".. ثم بقع الزيت الممتدة رابضة في القاع.. صُدم الصغارُ، لأنهم حرموا من رؤية القاع البحري الكورالي الفاتن الذي طالما كان متعة العين البشرية تحت الماء وخارج الماء.
 
خليجنا يموت ويختنق.. ورحت أقرأ في كل مصدر أقع عليه عن مدى تلوث خليجنا المغلق، وتعالت دقات قلبي مع كل تقرير، مع كل كتاب، مع كل تصريح.. واختلطت علي الرؤى، وكاد يُغمّ علي. ذهبتُ إلى الشاطئ وقدمت اعتذارا حزينا لا ينفع لخليج يحتضر.
 
لاشك أن هذا الشريان المائي من الأهم عالميا، ومحليا فهو متنفسنا مع العالم.. تجول حاملات النفط، وعابرات المحيط التجارية، الدنيا، وتأتي إلى خليجنا، ولا ندري كم من ملايين الأطنان من المخلفات الضارة تدفنها في بحرنا الضحل البطيء التجدد..
 
وقامت الحربُ حين غزا العراق الكويت، وكتبت ملحمة حربية كبرى، ولكنها حرب أيكولوجية بيئية، الذبيح فيها مياه الخليج العربي.. وترابه المحيط، وناسه القريبون. حربُ الخليج تلك، دفع ناسٌ فيها حياتهم، وممتلكاتهم كضحايا، ولكن من أكبر ضحايا الحرب كان الخليج، بل الكوكب كله.
 
قرأت تقريرا كيف أسيئ استخدام التربة البرية، وتقليبها، وتلويثها، وإفسادها من نقل وتنقلات أساطيل الآليات البالغة الثقل التي تنقل القوات الدولية المتحالفة، وتنظم عمليات اللوجستيك في الميدان والمواقع، وتحدث التقريرُ عن تراكماتٍ هائلةٍ للمخلفات الصلبة الملوثة التي لوثت الأرض، ومن احتمالات مستقبلية من تلوث المياه الجوفية.. وفوق تربة الصحراء خـُرِّبتْ الحياةُ الفطرية بدرجات كبرى، قـُلعت النباتاتُ من جذورها، ودُهست، وحُطمت، عبر الطريق إلى المعركة. ولقد وعد صدام حسين أن يترك الكويت أرضا محروقة، وقد فعل.
 
ويتذكر الناسُ كيف فقدنا الصيفَ في شرق المملكة لموسمين متتالين، من فعل العوالق في الطبقة الهوائية، حتى أنه خرج عالم طقس أمريكي وقال ما حصل للخليج يوازي الانفجار الذي حصل في بركان تامبورا الإندونيسي في العام 1815م حين غطى الغبارُ البركاني نصف سماء قارة آسيا لسنوات، مع انتشار أمراض التنفس التي قتلت أعدادا لا تحصى.. غير أنه كان مبالغا جدا، وإن كان بالطبع لا يلغي الضرر، فقد سجلت حالات زائدة من الأمراض الصدرية وهي موثقة.
 
ونعود للخليج الذي لم توفره الحرب، وعمليات التفريغ النفطي وبقايا السفن الصلبة والسائلة، وتلويث المصطافين السواحل والأعماق القريبة، ويقول تقريرٌ مفزعٌ معروف بتقرير ( صادق وماكاين - 1993م) إن مياه الخليج تلقت إفراغا نفطيا مقداره 11 مليون برميل من النفط من يناير 1991م إلى مايو 1991م.. يعني أكثر بعشرين مرة من حجم كارثة تسرب النفط حاملة النفط "فالديز" التابعة لشركة أكسون، وضعف أكبر تسرب نفطي في كل العالم ( تقرير زمر-1992).. هذا نتج عنه تلوث مركز بالزيت على امتداد أكثر من 1200 كيلومتر من شواطئ الخليج من الكويت حتى الإمارات.
 
وقبل أن أكفيك هذا السيناريو الحزين للموت الأيكولوجي البحري، أظهرت التقاريرُ أنه لا يقل عن ثمانين سفينة غرقت في الخليج، بعضها يحمل نفطا، والباقي أسلحة يعلم الله مدى قوة تلويثها وضررها.
 
وهنا من حقنا كلنا أن نطالب الهيئات المهتمة بحماية البيئة، وحماية أرواحنا، وصيانة مياهنا، في المملكة ودول الخليج بأن يخبروا الناس ماذا فعلوا، وماذا هم فاعلون.. وما هو المطلوب منا أن نفعل.
 
المبادرة.. المبادرة، قبل أن تأتي أجيالٌ تحكي للأطفال ما معنى كائن مائي كان اسمه سمكة!