مؤسسة النقد وثرواتنا الصغيرة

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
اليوم ابتهجتُ جدا.
 
والكثير من السعوديين يبتهجون أيضا.
 
فلقد صرحت مؤسسة النقد كما قرأت في الصحف أنها ستنظر في مسألة فك قيد الريال من الدولار.. وكواحدٍ من ملايين السعوديين أرفع الشكرَ للمؤسسة لمراجعتها الأوضاع مهما كانت الصعاب الفنية التي تفنن كثير من الكتاب المختصين في وصف العواقب لو انعتق الريالُ من مخلب النسر الأمريكي المزكوم..
 
ومن تفسيرات المؤسسة العلمية في صعوبة إدارة عواقب الفصل، خصوصا في مسألة المضاربة على الريال. ولكن، في النهاية يعرف كل سعودي أنه يغذي فرقَ عجز الدولار من جيبه، أي من لقمتهِ ولقمة عياله.. يعرف كل سعودي أنه ليس ذنب ريالنا أنه تهاوى في الأسواق، ولكنه ذنب هذا العملاق الثقيل الذي حرر نفسَه بقرار من نفسه في حادثة مشهورة في تاريخ العملات وهي حادثة "بريتون وودز" حين أعلن النسرُ أنه سيتحرر حتى من جاذبية الأرض، ولم يعد يربط نفسه بأي مقياس، وعامَ أو طار.. ولكنه يطير أحيانا، ثم يقع من علٍ على أمّ رأسه كثيرا من الأحايين منذ فصل نفسه من بقية موازين نقد الأرض.. ويعرف كل مطلع على تاريخ الدولار أن توازنه وهو يطير ليس من جناحيه فقط، ولكن من بقية الطيور التي تسانده وتشاركه سماه، ومن مصلحتها كلها أن يبقى محلقا، ولكنه بخبث يعرف ذلك فلا يحرك جناحيه كثيرا حتى لا يرهق طاقته، ولا يصرف مخازنَ قوته، بينما تتحرك الأطيارُ من كل لون وجنس ومنه ريالنا لرفده كلما بدا أنه يسقط كي لا يرتطم بالأرض فيحدث زلزالا يشق لوحة أرض التوازن النقدي العالمي.. ولكنا لسنا أفضل من الين ولا اليورو، ومن صالح الين أن يرتفع الدولار حتى تنافس البضاعة اليابانية في الأسعار في أسواق الدنيا، ويؤذي اقتصادَها يَنٌّ منتفخٌ لأن الدولارَ يفقد الهواءَ وهو يهوي، ولكن الينّ أيضا له حد في شفط كميات الدولار الموضوعة بأرفف الأسواق والبورصات الدولية، ولا بد أن يرى حِيَلا أخرى، وهذا ما يفعله اليابانيون، وكذلك اليورو، فمن مصلحة ألأوروبيين ألا ينخفض الدولار أمام عملتهم، فترتفع أسعار صادراتهم، ولذا يشاركون اليابانيبن في المصير نفسه، ثم إنك لا يمكن أن تتنبأ بما سيفعله بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي في هذه اللعبة الخطرة في تعديل نسبة الفائدة التي تقض مضجع المضاربين وحملة السندات الأمريكية، وأصحاب الودائع المهيلة بالدولار.
 
بكلمة: الدولار مثل كثير من ضروريات الدنيا.. شر لا بد منه، ولكنه ليس بالضرورة شر يجب أن نعيشه، وهذا ما ستفعله برأيي مؤسسة النقد، أن يكون الشر بجوارنا وهذه حقيقة بعد فصل الريال من الدولار من عواصف المضاربات التي ستحدث أكبر من قدرة جهازنا النقدي كما أتصور، ولكن ذلك أفضل من أن نكون في عين العاصفة، أو في قلب المعاناة.. أو معانقة الشر! إننا في عالم فعلا غريب.. عالمٌ ينادي بالوحدة القارية في الاقتصاد وقوانين السوق، وفي الوقت نفسه نعيش مناقضة قصوى في أحادية مصلحية واضحة من جانب آخر.. ويبدو بازغاً للمراقبين هذه الحقيقة، كما عن كتاب لنائب منظمة التجارة العالمية والذي كان مستشارا اقتصاديا للحكومة الأمريكية في كتاب عرضته لقرائي في مقتطفات الجمعة، يقول بفم خال من الماء إنه المنظمة التجارية ولا قوانين الجات تحققت، ولا الوضعُ عالميا صار للأفضل، بل يؤكد أن الأغنياءَ زادوا غِنى، وبقيت الدول الفقيرة أو الضعيفة تتخبط في بعضها.. لماذا؟ لأحاديةِ المصالح الشاهقة! الصينُ فهمت هذه اللعبة، وفهم كبارُ العالم أن الصينَ فهمت، لذا فهم يحسبون حسابا جديدا للصين ويدخلون عليها من أي "كعب أخيلٍ" ممكن للتنغيص على التنين.. أي تلمس نقاط الضعف أو التسلل ليحقنوا التنينَ بأمصال الضعفِ والاسترخاء.. إنها حال العالم، وحال العالم لن يتغير.. وكما يقولون في نجد: "كل واحد ينفخ النارَ إلى قِرصه!". اليوم سمعتُ زمزمةً وهمهمةً من سعوديين وهم يصرفون عملتهم في البلد الشرقي الذي أوجد به حاليا، لقد فقد ريالهم قرب الثلث من قوته، وأعادوا حساباتهم وهم يزمجرون.
 
نعم، ببساطة إنك تفتقر بنسبة قيمة فقدان عملتك لقوة شرائها.. قانون منطقي اقتصادي محسوس. إن مؤسسة النقد حين تفصل الريالَ من الدولار سينظر لها كل سعودي بالامتنان، لأنها في لحظة واحدة وكأن ساحر القمقم خرج من مكمنه وأعطاه ثروة صغيرة كانت فعلا من أمانيه.. أرجو ألا تتراجع المؤسسة عن منح السعوديين ثرواتهم الصغيرة، لأنهم بأشد الحاجة إليها.. وسنكون مع مؤسسة النقد مهما جابهت هي أو الريال من صعاب لأن خيار الفك هو خيار الجميع.. أو النسبة الكبرى من الجميع. .. متى؟!