لا يمكننا.. ويمكننا
سنة النشر : 01/05/2009
الصحيفة : الاقتصادية
لا يمكننا أن نتقدم مليمترا واحدا في عالم اليوم إن كانت كل قدراتنا مربوطة بيرقراطية ثقيلة، وتسلسل طويل من الإجراءات وبطء في التغيير. ويمكننا أن نشق طرقا وعرة وصعبة وتنافسية متى أطلقنا خيالَ الأمة وعقلها بتشجيع الأفكار الخلاقة وربطها بقياس الإنتاج والأداء ومدى التقدم في المضمار عما كان.
لو أن كل مرافق إدارة البلاد يُقاس إنتاجها وأداؤها فيما قدمت من أفكار ومن وسائل لتشجيعها ومدى التطوير ونسبته، لصار حالـُنا قطعا غير الحال.
لا يمكننا التقدم إن لم نختلط بالعالم ويختلط بنا، إن تضييق حدودنا سيحيلنا لنجمٍ أحمرٍ يموت ويترك مغناطيسه داخله فيبلع نفسه.. وتركُ مقاليد هذا القرار مع عقول فردية وصفةٌ يمكن أن تصلح لأي شيء إلا للتقدم. يمكننا التقدم بفتح النوافذ الحدودية للأهوية مع وضع فلاتر تحدد الهواء الفاسد فلا تسمح إلا للنقي المنعش من الهواء.
اليابان لم تتقدم وتذهل الدنيا إلا لما انفتحت على العالم، فسمحت له بالولوج إلى الداخل، ودفعت الوفود إلى الخارج للنقل والتعلم والاحتكاك. مصر كانت منارة القارتين آسيا وإفريقيا في العشرينيات والثلاثينيات، ولما جاءتها عقليات التعصب العقائدي والانغلاق هبطت مثل طائر جريح للسفوح. اليابان ومصر تعاملا مع الغرب في سنة واحدة من التاريخ.. والفرق شاهق.
لا يمكن لناشئتنا أن تنافس أو حتى تعيش مع ناشئة العالم في ظل آلية تعليم مرسومة من عقود، وبداخلها سلاسل غير مرئية أقوى من حبال ربط السفن في المراسي تمنع العقلَ الصغيرَ من الإبحار في الخيال وترييض خلايا الذكاء، وإيقاد مشاعل الموهبة المخبأة في خلايا الدماغ.. يمكننا أن نجعل عقولَ صغارنا تتفوق مع ناشئةِ الدنيا، لو نظرنا حولنا وليس بعيدا عنا.. أحضرُ كمشارك وكمدعو لمناسبات المدارس الخاصة للجاليات الهندية والفلبينية والباكستانية، وأجد الأطفالَ ضليعين في اللغة الإنجليزية والعلوم وتقنية المعلومات، وتنمية الشخصية الفردية ببراعةٍ وصنعةٍ تربويةٍ محترفة (رغم ضعف الموارد والإعداد والمرافق)، بينما يخرج أبناؤنا من الثانويات ضعيفي القدرة في لغتهم بله اللغة الأجنبية (اللغة الإنجليزية لم تعد لغة لأمة بذاتها بل صارت لغة العالم).. يجب أن تسأل هذه الأمة نفسَها سؤالا استنكاريا: لمَ يخرج أبناؤنا من الثانويات مهتزين، بلا أدوات عملية، بلا ثبات للشخصية؟ أو.. لماذا يدخلون المدارسَ أطفالا، ويتخرجون فيها.. أطفالا؟ لو أدركنا السؤال، وحددنا الإجابة لأمكننا صياغة العقول الصغيرة لتجوب الآفاق.
لا يمكننا أن نستفيد من مجلس الشورى، وهو حلمُ وأملُ كل أمةٍ تريد أن يشارك قطاع الشعب في القرار والمصير، متى كان مجرد بركة تصب به محددة القطراتُ فلا يخرج منه إلا ما دخل إليه، وتبقى القطرات الباقية راكدة محجوزة بأحزمة الأسمنت.. ولكن يمكننا أن نستفيد استفادة تاريخية ومصيرية من مجلس الشورى متى تأملنا آلية الطبيعة، فتركنا المجلسَ حرا كالنهر ينبع بلا قيد ويصب بلا قيد، ولكن مسار ضفتيه محدد سلفا وحتما من المنبع للمصب يغذي كل أرض يمر حولها، ولو خرج عن المسار فاض وأغرق.. المجلسُ يجب أن يختار منابع مواضيعه ولا تـُحبس أو تـُمنع آراؤه إلى مصابها.
لا يمكننا حقا وعدلا أن نقول إن لدينا مجالسَ بلديةٍ حقيقيةٍ.. وإلا، أينها؟ أين ضجتها السابقة؟ أين شعارات حملاتها؟ أين حماسة أعضائها؟ ماذا حدث لكل مدينة بها مجلس بلدي من تغيير دراماتيكي أو حتى ضئيل صغير يحسب في مجاري التغيير والتطوير؟ شيء ما طمس التجربة، وأدخل صُنارةً استلـّت الحماسة.
طلاءٌ داكنٌ غطى النورَ الأبيض الذي كنا نأمل أنه سيشق خيمة الروتين والبيروقراطية الثقيلة.. ويمكننا أن نفعّل المجالسَ البلدية فهي من أفكار التنظيمات المدنية العبقرية، متى أعطيناها الاستقلال الكاملَ، وانفتحت على المجتمع والإعلام، ومتى حددت ما تريد وما يريد أهل المدن الذين وضعوا أعضاءها، ومتى ما تعودت المجالس أن تقدم كشوفا مثل كشوف الحساب لما وعدت أن تنفذ، وكشوفا لما أنجز طبقا للعهود.. والذي لم ينجز، والأهم المصارحة بأسباب الإعاقة وموانع الإنجاز.. من دون ذلك، فلنصافح أعضاء المجالس البلدية شاكرين.. ومودعين.
لا يمكن أن أنهي المقالَ هنا، فلم أتطرق بعد لضبط الأسواق والأسعار، ولا للفقر، ولا للمجلس الاقتصادي، ولا لمسألة العولمة، ولا لقضايا وحدة الأمة، ولا المجلس الأعلى للبترول، ولا لثروات ناضبةٍ أخرى كالماء، ولا للتخطيط، ولا لروح القطاع الخاص ودور مفقود عظيم للغرف التجارية، ولا لتنمية الروح العصامية كحل عضوي للبطالة، ولا للربط والضبط للهرمونات الفائرة عند مراهقي الأمة، ولا للعدل والمساواة، ولا لقضية الفقر وربطها بالفعل الخيري الأهلي المستقل، ولا للأسرة وإدارة مسألة العنف والاستغلال، ولا للجريمة، ولا لصيانة المرافق العامة، ولا لتنمية المعرفة العامة والمكتبات العامة ودور النوادي الأدبية.. ولا لعنصر رئيس جدا وهو تعظيم ثروة الأمة.. ويمكن إما أن أكمل في مقالات أخرى، وإما أن أترككم كي تتصوروها مع أنفسكم، مع ضمائركم، مع عقولكم.. مع خوفكم على كل ترابةٍ من أرض هذه الأمة، وخوفكم على كل نفسٍ تسيرُ على هذا التراب!