بلادي وإن جارتْ عليَّ عزيزةٌ..
سنة النشر : 01/05/2009
الصحيفة : الاقتصادية
حرِصَتْ المعلمة التي بعثـَتْ المظروفَ على أن يصل إليّ بعنايةٍ، وأن يُسلـَّم لي بأقرب وأضمن الطرق، وعجبتُ لهذا الحرص. المرسلة تتكلم عن نفسها، ونيابة عن كل من يعانين وضعها نفسه، من هذا الحريق المضطرم بين أضلاعهن، غضَبا أحياناً، وحسرةً عميقةً أحيانا أكثر.
ولقد أخذت الرسالةُ بمشاعري من أول سطرٍ فيها حين كتبَتْْ: "احترتُ كثيرا لمن أوجِّه شكواي، هل إلى وزارة التربية، أم وزير العمل، أم وزير المالية؟..".
وعليكم قرائي الأعزاء أن تطيلوا التأملَ في الجملةِ المقبلة، وهي تعبر عن نفسها خير تعبير، فهي تكتب:" وهنا، فشأني شأن باقي المواطنين الذين يجهلون أين يتجهون عندما تضيع حقوقهم!".
عندما يشعر المواطنُ أنه مظلومٌ فهذا أمرٌ صعب، ولكن الأمرُ الأصعب والأشدّ مرارة هو عندما يحمل مظلمتـَهُ كصخرةٍ مليئة بالنتوءاتِ الحادة كالأنصال، ثم يضربُ في متاهات الاتجاهات لا يدري أين يحُطـَّ بها، فتبقى المظلمةُ، ويبقى ما هو أشد من المظلمة، وهو أن حاملها لا يجد أحدا كي ينزلها ولو قليلا عن كاهله.
لذا فإن الشاكية تتجه إلى طريق آخر، وهو الطريقُ الذي لا نفرح أنه صار أقصر الطرق، وأضمنها وصولا، وهو.. أو، اقرأوا معي مِن الرسالة: "لذا قررتُ أن أوجِّه رسالتي إلى السلطةِ الرابعة.."
.. وهي تقصد إلى الصحافة، والصحافة لم تصل عندنا إلى تكون سلطة رابعة، فالسلطة تتطلب الرأيَ المستقل، والمرجعَ المستقل، ولكن صحافتنا في أفضل أحوالـِها هي مكبِّر صوتٍ على مسمع أذن الأمة.. وهذا جيد، ما دامت المقالات تخرج للنور بأمان. وتستمر صاحبة الرسالة لتوضح طبيعة شكواها: "نحن معلمات القطاع الخاص، ولسنا نكرات في هذا الوطن، ولسنا عالة على أحد، ولا صفرا على الشمال، نحن مواطنات سعوديات متخرجات في كليات وجامعات سعودية وبمعدلاتٍ عالية، وندين لوطننا بالولاءِ والحبِّ والانتماءِ الصادق.. طارت منا الوظائفُ في المدارس الحكومية وباتت حلما سرابيا، وكُتب علينا أن نتوظف في سجون المدارس الأهلية".
وهي لم تسم المدارس الأهلية سجونا عبثا، بل قصدَتْ كما فهمتُ من الرسالة نفسها، أن العملَ في السجون هو سُخرة في الإرهاق بالعمل .. ألا يقولون: "حُكم على المتهم بالعمل الشاق"؟ وعملٌ بلا مقابل مجزٍ أمام ما يُقدَّم من جهودٍ وعرقٍ وعملٍ واجتهاد.. نزفٌ من طاقة العمر، يقتصّ من الصحة، ويضغط على العقل، ويرهق القلبَ.
والمكافأةُ حفنة ضئيلة من النقد تكون مثل قطعةٍ من العذاب والهوان.. لماذا؟.. الرسالة تجيب: "لا تتجاوز رواتبنا الألف وخمسمائة ريال، ويؤخذ منها مائة وخمسون ريالا، ولا نعرف ما معنى الزيادة السنوية، ولا بدلات من أي نوع، ولا علاج، ونصاب الحصص يتعدى في كثير من الأحيان الـ 22 حصة مع تدريس 13 إلى 15 مادة.. وكل مادة تحتاجُ تحضيرا، ووسائل إيضاح من جيوبنا.
وهل رواتبنا على مدار العام؟ لا، في العطل الصيفية لا يُصرف لنا شيء.. إننا لا نزيد على كوننا عاملات موسميات لمدة ثمانية أشهر في العام.. لا أكثر".
إني من موقعي هنا أطالب أن تُحـَلّ هذه الأزمة حالاً.. ليس فقط من أجل هؤلاء المدرّسات في القطاع الخاص فقط، ولكن من أجل بناتنا، بنات الأمة، فكيف يمكن أن نطلب من مدرِّسات محبطات مهما كن من الملائكية والإخلاص أن ينتجن مخرجات جيدة؟ وكيف نرضى كمسؤولين وكمواطنين مشاركين أن يتم هذا تحت أعيننا؟ إنها السُخرة الجديدة، نوعٌ من أكل لحوم الأحياء، نزفٌ لا يمكن قبوله في أمرٍ لا يمكن تصور إهمالِه أو إشاحةِ النظر عنه.. لن ألوم المدارسَ الأهلية فقط، ولن ألوم الوزارات المعنية فقط.. بل ألوم كلنا، لأن جودة حياة الجيل القادم مسؤوليتنا التي سنحاسب عليها.. وهذه مهمة أول من يحملها المعلمون والمعلمات.. والجسدُ الرسمي كله مطالبٌ بالتدخل حالا، والمجالسُ الاستشارية كلها مطالبة بالتدخل حالا وحتى لجنة حقوق الإنسان، كلنا مطالبون بالتدخل.. والشاكية تقول: "يا مسلمون، يا ناس، أنا مواطنة جامعية في أكبر بلدٍ منتج للنفط في العالم، ويشهد طفرةً غير مسبوقةٍ لا تضع في يدها آخر الشهر إلا حصادَ ريح، أقل من 400 دولار شهريا، خمسون ريالا في يوم نعمل فيه لسبع ساعات متواصلة؟ هل هذا يعقل؟!".
ورغم كل ذلك، تختم الرسالة مؤكَِدَة: "نحن معلماتٌ على رأس العمل، ونقول: بلادي وإن جارتْ عليّ عزيزةٌ .. وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرامُ"