ريم: هل متّ خطأ أم جريمة؟

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
هل من الممكن أن نقول ألاَّ مكان للخطأ في الطب الحديث الآن؟ أم يصح أن نقول أن الطبيب في النهاية إنسان، وكل إنسان معرض للخطأ.
 
ففي مسألة الإنسان يخطئ، فهذا لا يتناقش فيها عاقلان، ولكن حجم ونوع ومساحة السماح في الخطأ تختلف من مكان لمكان، ومن مهنة لمهنة.. يعني، لما نكون أنت وأنا على حافة تلةٍ رملية وأدفعك خطأ فالنتيجة أن تصل سليما، لقلة الارتفاع ولأن الرمل الناعم يحضنك حتى يسلمك الأرض، ولا يمكن أبدا أن تحسب لي درجة السماح نفسها في الوقوع في الخطأ حين تكون هذه الحافة صخرية وعلى ارتفاع شاهق فيكون السقوط هو الموت المحقق.
 
هل أنا محق؟ هل المثل واضح؟ وكذلك المهنة، فإن كنت حلاقا وقصصت شعرك بطريقةٍ خاطئة، فهل هي درجة السماح نفسها المخولة لي إن كنت جراحا فاستأصلت مرارتك، بينما موقع الالتهاب هو زائدتك الدودية؟ أو هل مساحة السماح كبيرة عندنا يأتي طفلك وأعيده بدواء للكحة، وهو يعاني اختناقا شديدا بفعل حساسية تمتص هواء الرئة، وتعرضه لموتٍ أكيد إن لم أتدخل كطبيب بأجهزة التنفس الصناعي؟ الخطأ وارد، ولكن مساحة الحذر والعناية والدقة والجدية والاهتمام هي التي تتفاوت من مهنة إلى مهنة، من مكان لمكان، من حالة إلى حالة.. إذن إذا سمحنا للطبيب بالخطأ الأكيد، فهل نسمح له أبدا بقلة الاكتراث، أو الجهل أو سوء التشخيص لضعف الجدية، وفقر التأهيل، وهل نغفر لمن وضعه في ذاك المكان؟ ونعود للسؤال الأول، هل هناك مكان للخطأ في الطب الحديث؟ لقد وثق المجتمع بالطبيب ووفرت له وسائل التقنية الإمكانات.. كي لا يخطئ، خصوصا حين يكون الخطأ نتيجة الكسل والتواكل وقلة الاهتمام بحياة إنسان أمامه لا يراه إلا رقما أو حالة أو مجرّد ملفٍّ آخر.. هنا تنتقل الحالة من الخطأ إلى الجرم.
 
مساحة الخطأ ضاقت جدا الآن في وجود المعجزات الطبية، والإنجازات المدهشة التي تجعل التشخيص دقيقا إلى درجة لم نكن نحلم بها من عشرين عاما، فمن يخطئ آنذاك بعذر، فلا مكان للعذر في هذا اليوم والإمكانات الطبية كادت الآن تشخّص تلقائيا.
 
نعرف مدى القفزات التي حققها العلم المختبري، وصارت نتائج المختبرات تبلغ من الدقة حدا يوازي الكمال، وأجهزة الحاسوب وأدوات النفاذ، والمناظير، وأدوات الجس الدقيقة الإلكترونية تقتل مساحات من اجتهادات الطبيب في التشخيص، وهي في الطريق للقضاء على الاحتمالات التي عادة ما يختلف في تشخيصها الأطباء، فكيف في الحالات العادية التي يكاد يشخصها بواب المستشفى مما تراكم لديه من خبرات.
 
وهذا الذي جعل قارئاً يلاحقني كي أنشر قصة قريبته "ريم" وهي زوجة في السابعة والعشرين من عمرها عوملت بقلة اكتراث لما جاءت، وهي حامل في الشهر الثامن، إلى مستشفى في الرياض، وكانت تتلوى ألما من مغص يجري كالسكين الملتهب في أحشائها، ولكن الطبيبة وبلا استخدام أي جهاز طبي، أو أي نوع من التحليل، وبفظاظة وقلة ذوق (حرفيا من خطاب القارئ) بعد أن أعطتها إبرة مسكنة طلبت منها أن تذهب إلى المنزل لأن "ما فيها شيء"! وراحت محاولة الأم المرافقة لابنتها أدراج الرياح أن تعيد الدكتورة الفحص بشكل أدق لأن البنت ما زالت تتلوى ألما.. أما العجب فهو رد الدكتورة: "طيب لو فحصتها مرة ثانية ولم أجد بها شيئا فأنت المسؤولة"(!).. اتصل الأهل بمستشفى مدينة الملك فهد الطبية، فأرسلت سيارة إسعاف لنقل المريضة.
 
وهناك حصدت "ريم" خطأ الطبيبة في المستشفى الأول، حين شخصت الحالة بأنها "انفجار في الطحال".. تصوروا؟! "ريم" أصيبت بنزيف استمر رغم التدخل الجراحي.. وبدأت أعضاء الفتاة الشابة الأم الحامل ريم تنسحب من العمل عضوا عضوا، توقفت الكلى ثم الكبد.. ثم كامل الجسد.. وانتقلت ريم للراحة الأبدية مع جنينها.. فقط لأن طبيبةً لم تر داعيا أن تجتهد ولو قليلا. ولو تسلم الحالة بواب المستشفى لربما أنقذ حياتها.
 
ريم لم تقع من تلةٍ رملية، ولم يتسلم حالتها بواب المستشفى، وإنما طبيبة مؤهلة كي تنقذ المرضى، تبين فيما بعد أنها مؤهلة للعمل مع فرقة الموت! لاحقني قريبها القارئ وهو يعلم أن ريم رحلت لبارئها ولن تعود.. ولكنه لن ينام وريم أخرى مهددة بالمصير نفسه. لهذا من أجل ريم، من أجلكم.. من أجل الله.. خرجت هذه المقالة، المقالة التي تقول من قتل ريم لم يقتلها خطأ.. لأن الطب بتقنياته قلل احتمالات الخطأ.
 
وأرجو أن تكون ريم التي رحلت قالعة قلوب محبيها.. قد تفتح في قلوب وزارتنا للصحة، وإداراتنا الطبية، ومؤسسات القبول وتأهيل الأطباء، ومستشفياتنا ممرا مباشرا إلى الضمائر كي تعتذر لريم.. ولكن ريم لن تسمع الاعتذار!