سلمى.. ابنتنا (2– 2)
سنة النشر : 01/05/2009
الصحيفة : الاقتصادية
سلمى البنتُ المراهقة من أبٍ سعودي، والتي تسمى في إحدى دول الشرق الأقصى ملكة الإعلان والتي تركها أبوها مع أمها ولم يعد، وأبلغني عنها أبو عبد المحسن المقيم هناك لأعماله، كما أخبرتكم في المقالة الأولى، وكنتُ أحسبها تعيش في رخاءٍ مالي بسبب نجوميتها الإعلانية، على أن أبا عبد المحسن عقب بأن العملَ موسميٌ، وتأكلُ معظمَ أجرها وكالةٌ محتكرة، ثم أخذني لمكان تمنيت أنه لم يأخذني إليه..
أبو عبد المحسن يصل في الوقت تماما للفندق الذي أقطنه، والوقت متأخر في أمسيةٍ شديدة المطر.. ثم ركبنا سيارته ننهب طرقا تنزلق عليها أضواءُ النيون الخاطفة على الإسفلت اللامع بماء المطر، وأخذني إلى شارع تتخاطف به لوحات متحركة تعرض كل أنواع الجذب لعلـَب الليل، وفي الوسط مقهى كما يسمونه ولكنه مخمرة، فلا ترى إلا كؤوسَ البيرة الضخمة وما تلون من شرابٍ يُزري بالعقل، ومن النادر أن ترى كوبا من القهوة أو الشاي، لم يكن المكانُ مدعاة للخوف، إلا أن صورا في رأسي دعتني أتخيل أن شجارا سيشب، أو كراسي وطاولات ستتكسر على الرؤوس على طريقة علب الليل في الأفلام المصرية، على أن هذا لم يحدث، ولكن الذي يحدث هو تصرف الشاربين مع النادلات، فأجسادُهن مباحةٌ لأيادي الشاربين المتعدية، لأنها معروضة بأبخس التخفيضات، والحياءُ والذوقُ يصادران عند بابِ الدخول لـ "المقهى".
وتدور بناتٌ منتقياتٌ بعنايةٍ، ولا داعي أن أقول لكم ما يرتدين على أجسادهن الفتية فقد حزرتم قبلي، ومعلق على رقابهن أمام صدورهن صندوق خشبي توزعت به السجائرُ وبعض الحلوى ليشتري منها الزبائن، ولكن المسألة وراء الشراء هي أن ما يُباع مغالىً بأضعاف سعره وذلك كثمنٍ غير معلن للتودِّد للفتيات القشيبات، ولا تجعلوني أشرح لكم ما أعنيه بذاك "التودّد".. رجاءً.
ثم أشار أبو عبد المحسن لأكثرهن وسامة، وأضوأهن وجها، وأملحهن حضورا، وأرفعهن قامة.. وإذا هي سلمى. استدعى أبو عبد المحسن سلمى، وأسرّ لها شيئا.. وخرجنا. في اليوم التالي بعد الظهر، أُخبـِرتُ من موظفة الاستقبال أن امرأتين في انتظاري، وطلبتُ مكالمتهما، فإذا هي أم سلمى.. ونزلت للقاعة على التو.
أم سلمى ما زالت في مسوح الشباب، متحجبة، وحيية، وبجانبها البنت التي رأيتها ليلة الأمس بلا .. "لا داعي، حزرتم مرة أخرى".. ولكنها هذه المرة مكتسية بزي المسلمين في تلك البلاد، وحجابها يدور على وجهها المراهق.. وبدا لي غاضبا.
وضحكتُ من المفارقة.. أم بكيت. ربما ضحكٌ كالبكاء.. حكتا لي كثيرا، لن أقول لكم كل ملحمتهما، ولا كل الدموع، ولا كل الشهقات ومعاناة الأم، ومعاناة الفتاة التي قطعت دراستها، ورسمت من الآن مستقبلـَها، وهو مستقبلٌ يخـُطـُّهُ قلمٌ بمدادٍ أسود ناقع الحزن في اليوم الحاضر، مستقبلٌ تقرأه الآن ولا تنتظره في الغد.. إلا أن هدى اللهُ أباها، ولعل هذا يصل إليه، لأني أقول له إن سلمى، تكره العربَ، ثم اعترفت أنها لا تريد الإسلام، وتريد أن ترتبط بصديقها المسيحي، ولا تشير لوالدها السعودي إلا بـ That guy أي "ذاك الشخص" ازدراءً وغضباً وكُرها.. ولما سألتها والدتها أن تتعامل معي بلطف لأني، كما وصـَفـَتْ، أبدو إنسانا طيبا.. ردت البنت بسرعة البرق الراعد: "إن كان طيـِّبا.. فهو ليس سعوديا!".
ولما كانت سلمى ذات الأربعة عشر ربيعا (ربيعا؟! بل سنين سودا) تغادر القاعة الرخامية، التفتت إليّ فجأة.. ثم أزاحت حجابها بقوة، وانتشر شعرها.. وسقط كشلالٍ أسود، وسقط معه قلبي.. فقد أرسلت لي رسالة كلها غضبٍ وتحدٍّ.. وقد تسلمتُ أنا الرسالة بكل وضوح! وقد غادرتُ عائداً لبلادي، وجزءٌ من قلبي بقي مع ابنتي سلمى.. ابنتـُنا!