وزارة التعليم وعقلُ الفراشة

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
حان الوقتُ كي نُفسر عن كمومِ أذرعتِنا ونغمس أيادينا في جسد التعليم، ونزيل أعضاءً متيبسة، ونظراً حصيرا، وأنسجة عقلية جفت فلم تعد تتخيل ولا تنظر في الحاضر بله أن تنظر إلى المستقبل. لا نملك دليلا مؤثرا أن تغييرا دراماتيكيا يحصل في وزارة التعليم، الذي يحتاج إلى ثورة من الداخل قبل عاصفة تغييرٍ من الخارج، ولكننا نشعر أن هناك الآن عقليات نافذة تحاول اختراق الحجب المغبرة التي علت أرففَ الوزارة، حيث تجمع الغبارُ وتراكم فلم تعد تُرى الأرففُ ولا ما تحمله فوقها.. شعورٌ يحاول أن يتغلغل إلى نبع التفاؤل بأن عقولا جسورة في الوزارة بدأت تسعى لتكشف أمراضا طالت، وأن تعالج الالتهابات الحادة قبل أن يطول المرضُ ويكون كما يقول الأطباءُ "مزمنا"، وحين يُزمِن المرضُ يرفع الطبيبُ يدَه ويطالب المريضَ أن يعايش المرضَ بالمسكنات لا العلاجات المخلـِّصة، إن في الوزارة، كما نحب أن نتصور، عقولاً تحاول أن تتلمس الطريقَ والرأيَ خارج حصنها الحصين، ولا تتغير المياه ُإلا عندما تـُفتح السدودُ لتتدفق المياهُ من الحوض وإليه.. إن سرّ الركود السابق لعقودٍ أن الجهاتَ التعليمية رفعت سدّا لحصر المعرفة والخطط ولم تتكلف بوضع المخارج.. واكتشفنا الآن أنهم لم يبنوا سدا بل شيدوا سوراً حمائيا.. يحميهم ممن؟ ..لا ندري، إلا أن الثابت أنه مع تعاقب الأجيال حموا أنفسهم من مقتحمٍ واضح، اسمه التطور!
 
 لقد حاولت أن أخرج بمفهوم متعدد الجوانب، مفهومٌ خرجت به بعد تقليب الرأي واستنهاض المعلومات من الأدمغة العلمية الممتازة القريبة حولي وأعرف إخلاصها المنقطع للتنمية التعليمية، ومن رؤىً خاصة، ومما نقرأه من تجارب الدول الأخرى، وكتابات المختصين العالميين والعرب والمحليين.. وفي الرؤيةِ التعليميةِ على مستوى البلاد يصرّ المخططون العلميون أصحابُ التجارب الناجحة على مسألة الإعداد في فترة ما قبل المدرسة، وأنه يجب أن يُكرَّس لها خطة قومية مركزة لإعداد العقلية الصغيرة لتقبل الجو المدرسي والدراسي، ليس بالضرورة مهارات أو دروس معينة، ولكن تهيئة الإناء التهيئة الصحيحة معرفيا ونفسيا لاستقبال المادة التي ستوضع به على مر القادم من السنين، وألا تكون هذه الفترة هي "الروضة التقليدية" التي يتلهى بها الأطفال فقط قبل المدارس.
 
إن الأجيالَ القادمة تلك التي ستُعَدّ في الفترة ما قبل المدرسة تحتاج إلى تصميم منهجي خاص وجديدا لا يجهزهم فقط للمتغيرات المعاصرة الكبرى والنوعية في العالم عموما، وإنما ليكونوا مؤهلين لاستيعاب التغيرات المستقبلية حتى لا تفاجئ الأجيالَ (والأمة) التغييراتُ المستقبلية كما باغتتنا عربةُ التغيير التي مرت فوقنا ولم تترك حتى آثار عجلاتها. "طاغور" الشاعر المتصوف الكوني الهندي- هه.. ويقولون إن الشعراءَ لا يخططون- قال: " ليت عقولنا بإشعارات عقل الفراشة تتلمسُ ولادات البراعم قبل أن تبزغ.
 
" صحيحٌ جدا، وهذا بالضبط والدقة ما يحصل في الهند الآن، وبنفاذٍ عبقريٍ أخـّاذ ولافت للنظر، وهم برأيي سيسبقون التقدمَ الصيني بثبات لعراقة الرؤية الفكرية المستقبلية القريبة والبعيدة، لقد حقق الهنودُ أملَ شاعرهم الأكبر فرأوا براعمَ المستقبل قبل أن تطل من الأغصنة، واستعدوا لقطافها قبل أن تزهر، وأنظر الآن إلى أن أزمة سوق العمل المعرفي التقني في الولايات المتحدة وأوربا هي أن هذه الأعمال صارت توكل للعقول الهندية.. للرخص؟ بالسابق نعم، وأما الآن فهناك معاهد في نواحي الهند عاد إليها من كاليفورنيا مهندسون هنود لأن الأجور صارت أعلى!.. إذن لماذا تتعامل مختبرات التقنية في الشركات الأمريكية والغربية الكبرى مع الهنود؟ لأن الفائدة (الفوائد) المضافة التي تنتجها العقول الهندية تعدت قدرة العقول هناك، صفةُ هنديةٌ كادت أن تصير صفةً قومية.
 
هناك أمرٌ آخر، وهو إيجاد المنحى التدريبي اليدويhandcraft trainings، من الصفوف الأولى لأمرين: تغيير النظرة الاجتماعية، التي تعرّقت، لهذا النوع من الصناعات، والآخر إعداد الطلائع لمهارات الحياة اليومية لإيجاد فرص العمل، وإنجاز أعمالهم البيتية من دون استعانة بعمالةٍ خارج البيوت (كم سيوفر هذا على مجمل اقتصاد الأمة؟) التحول للتعلم الإلكتروني صار في أمم كثيرة من العالم الثالث، وليس فقط في العالم الأول، طبيعةً دراسية يومية، إن مدراس ومعاهد وكليات في الفلبين وكمبوديا والبرازيل قائمة على التعليم الإلكتروني بالكامل، ورأيتُ قرىً بالفلبين في مدارس متواضعة من البامبو يتجمع بها عشرة أطفالٍ على جهاز حاسوبٍ واحد، ثم يأتون إلينا هنا مهندسين وتقنيين وفنيين بارعين.
 
حقيقة في منتهى بساطة الحياة: طبيعة العقول المفكرة والمبتكرة القفز فوق العراقيل لا الوقوف أمامها، وفي العقل التربوي يجب أن يكون الابتكارُ ملحقا أساسيا لا صفة تأتي بالاختيار. ويبقى المعلمون وهم لبّ المسألة التعليمية وقشرتها، هم اللحمةُ والسداة، وأي خطة تطويرية لا تنهض بالمدرس فهي من هباءٍ إلى هباء.. إن الحكيمَ سقراط، وتسميه الإنسانية معلمها الأول يقول إن التعليمَ مهنة كل المهن.. لأن كل مهنةٍ في الدنيا هي صنيعة المهنة الأولى: التعليم.. وهذا موضوعٌ آخر..