سعيرُ الأسعار..

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
إنه سعيرُ الأسعار إن أردت، وهو سعارُ الأسعار إن شئت، فالسعير يشوي الجلد الحي، والسعارُ يسري مدمرا الخلايا حتى العظم. الأسعارُ انفلتت كبالون ضخم امتلأ حتى الزخم بالهليوم وصار يطير عاليا، ويطير، إلى أن تأتي لحظة الانفجار، وكل انفجار بإمكانه الانتظار والتريث إلا ما يمس مائدة الإنسان، خبزه وماءه.. فهو انفجار أسرع مما نتصور، أو بديل آخر أجمل منه الانفجار.
 
إن الأسعارَ التي ترتفع بلا ضبط ولا ربط وصار التنبؤ لها والاحتياط ضدها عبثاً في عبث، تضافرت لها عناصر وأسباب من الخارج، وأجّجتها ظروفٌ موضوعية داخلية من ضمنها ضعف الخطط، وقلة المكاشفة، وتمويه الواقع بغلالات الترصيع الإعلامي، ولكن إن أفاد هذا في أي شيء، فلن يفيد عندما تصرخ أمعاءُ الأطفال الصغار، وأمعاء الكبار.. كل شيء يمر من خلال المعدة، كل حبٍّ، وكل ولاءٍ، وكل انتماء.. ومغزى الأرض أولا وأخيرا هو العطاء، وعندما تنقبض عن العطاء ينفر الناسُ ويرحلون، إن لم يرحلوا بأجسادهم، رحلوا بعقولهم وأرواحهم وقلوبهم.
 
الأسعار التي ضربها السعارُ صارت تجري بلا هدف كمن يركض والنيران تحرق جسده يطلب النجاة بينما كلما أسرع أضرم الهواءُ مزيدا من الحريق في بقية أعضائه.
 
هي مثل دخان البندقية، وترى دخان البندقية فلا تدري هل انطلقت الرصاصة أم أنها في الاحتماء للانطلاق.. والرصاصة تصيب الأمة كلها في الدائرة الحمراء التي تعبر عن أمنها واستقرارها وحياتها عندما تنفجر في المعدة، معدة الجائع. الأسعار المسعورة، يا جماعتي، هي قشرة الموز التي تلقى في طريق اقتصاد وتقدم أي أمة، فتسبب الكوارث.
 
والواقع قد يقول إننا أسهمنا بإرادة في ارتفاع الأسعار، والواقع قد يقول إن الأسعار ارتفعت ولا حيلة لأحد في صدِّ موجةٍ عالميةٍ كاسحة، على أن كلا الواقعين لا يغير من الأمر شيئا، فلا سبيل في كل حال إلا أن نعمل بكل طاقة حياتنا بلا مواربة، بلا مجاملة، بلا تمنطق، بلا روتين، بلا تزييف، بلا خوف على مكتسب آني ذاتي، لأن الموجة إن غمرت، فستغمرنا كلنا، فالكل يجب أن يعمل بروح فريق واحد، وبصراحة، وبقوة وبجدية وبمكاشفةٍ قصوى، فهذه لحظة من لحظات أزمة الحياة، مثل أن يتنادى أهل فريق أو حي لإطفاء نار في حيهم، يكون في ذاك الوقت السائدُ هو لحظة الحقيقة، لحظة الحياة، لا فرق بين أحد، لا وقت للتلاعب، ولا مناسبة للتأنق مظهرا أو عبارات، لا مكان لمن يجلس على كرسي والجميع يحملون الخراطيم ويوجهون المياه إلى قلب النار.
 
إن الأسعارَ لم تعد تطاق، فلو عبرت الرسائلُ التي تصلني وتصل كل كاتبة وكاتب بهذه الأمة لكانت كل كلمة جمرة من جمرات الدمع والعذاب.. ثم إن الذي يشكي لم يعد هو الفقيرُ التقليدي، بل ارتفعت شكوى الفقر إلى أعلى الطبقات الوسطى، والحقيقة أن شرائح الأجور الحالية في كل القطاعات لأكثر من 60 في المائة من السعوديين تؤهلهم بجدارة لصفة الفقر.
 
وقد تكون زيادة آنية للأجور وتعديلاً كبيراً على هياكلها من الحلول، ولكنه لن يعدو أن يكون حلا بخاريا سريع الانحسار إن لم تـُحَل جذور المسألة: ارتفاع الأسعار.
 
وهنا يجب أن نعيد وبسرعة الفهم للوضع الخطر، ونجهز أنفسَنا كمسؤولين ومخططين بنوع جديد- قديم من السلوك، وهو أخلاق مواجهة لحظة من لحظات الحياة، عندما تكون الحقيقة هي البديل الأول، وهي الخيار الأخير.. لم يعد مستساغا عقلا أن تعدل مرزام غترتك، وتنقي ألفاظ تقريرك، وتموّه أرقامك وأنت لا ترى في المرآة أمامك إلا ألسنة النيران تتراقص بقربك، وبقرب الجميع.
 
الغلاءُ لا يفهم المزاح، ولا المسامحة، ولا التريث في الوقت إنه غولٌ يقتات ليكبر من عناصر سوء المواجهة، أو انتظار أن يصدق الناس ما تقول حتى لو لم تصدق أنت.. المعدة فارغة تعطل كامل عمليات السمع وحسن الإصغاء.. المعدة يا ناس صماء! يجب أن ننظر في مسألة الريال والدولار هذه وبسرعة، فكل يوم يفقد الريال جزءا من قدرته، أي أن ريالنا أمام السوق العالمية يعاني عجزا قد يفوق (تراكميا) 40 في المائة، ويجب أن ننظر في الدعم الداخلي، وترشيد الإنفاق في الداخل في تحويل الأموال حسب الضرورات الداخلية، وليس فقط الموجبات الخارجية، يجب أن تكون هناك خطة حالية واقعية وصريحة وصادقة ومكاشفة لمكافحة الغلاء.. على الأقل ما نستطيع مكافحته.
 
ولا يفرحنا ارتفاع النفط والريال يضمر كل يوم، فالكرة التي تنطلق منا تعود إلينا من الأسواق الخارجية أكبر حجما وأشد اندفاعا.. وبالتالي نغذي الغلاءَ من بترولنا، فالريال يضعف وأسعار النفط تطير، وكل ما سنستورده سيطير، ولا تسألني رجاء ما الذي نستورده.. كل شيء! وحتى نصعد التلة، نحتاج إلى التماسك والتواصل..