مصانعُ الجبيل وأمـُّنا الغولة!

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
"الجبيلُ" كانت قبل عقودٍ غافية على ضفافِ الخليج، لم يسمع بها العالمُ، ولم تسمع هي عن معظم العالم. عقودٌ في عمر جيلٍ واحد، وانقلبت الجبيلُ لتكون ملحمة على الأرض، ملحمة انتقال من عصر إلى عصر، ومن حالةٍ إلى حالة، ومن حضارة إلى حضارة.. ومن مدينة فقيرة ومكتفية، إلى مدينة هائلة الثراء بقياس الممتلك الصناعي، وتحمل طموحا يطير للسماء.. وقلنا السماءَ.. الهواء.. الماء.. ومن هنا تبدأ الصورة الأخرى، نتكلم حولها بصراحةٍ الآن.. قبل أن تكون معاناة كبرى بعد فوات أوان.
 
الملك عبد الله افتتح أمس مشاريع بعشرات المليارات من الريالات، مضافة إلى مصانع عملاقة قبل بعشرات المليارات، وصارت الجبيلُ الصناعية، مثل مدينة الأزتيك الخرافية المشيدة من الذهب الرنّان، ولكن حتى الإمبراطور "ميداس" الذي تمنى أن يتحول كل شيء يلمسه ذهبا، ندم يوما من عواقب الذهَب.. إنها حِكـَمُ الواقع والأسطورة، سطرتها المعرفةُ الإنسانية بالوعي الحاضر، وبالوعي الباطن لتقول إن لكل إنجاز على سطح الأرض ضريبة، وإنك يجب أن تفكر كيف ترفع عن كاهلك عبءَ الضريبةِ أو أكثرها قبل الشروع في بناءِ صروحِ الذهب.
 
ونحن نرفع مصانعنا في الجبيل إلى جفون الشمس، يجب أن نفكر في الضرائب التي ندفعها لنكحل عينَ الشمس.. ومن هذا التفكير تبدأ ممارسة الخطة الاستشرافية، "الرؤية" كما يقول قادة الإدارة، والرؤية ليست أقل ولا أكثر من قراءة المستقبل والاستعداد له الآن.. ولو أمكن، قبل الآن! الجبيل أكبر بقعة صناعية في مكان واحد على وجهِ المعمورة، ولا ندري هل نقول لحسن الحظ أم قلته، فإنها صناعات ثقيلة وأساسية وبعضها يسبق صناعة اللقيم ومنتجات نهاية الجدول.. صناعات ضخمة تنتج عوادم ضخمة، فبينما تسير منتجاتـُنا لتتجول في الدنيا، وهي ثقيلة كالصلب، أو مفرزة للمخلفات التي تلطخ الأجواء والمياه بحكم أنها في معظمها معتمدة على القوام الكيميائي، ولكنها في ذات اللحظة وهي تلتقط الأموال، تكون هناك عمليات متوازية أخرى تستنهض غولةَ الأهوال.. وأهل الجبيل في القديم يتلون قصص المساءات لأطفالهم عن "الغولة".. والغريب أنهم كانوا يقولون "أمنا الغولة".. وعندما أقلب التفكيرَ أعيد القولَ بيني وبيني، وربما بصوت مسموع كمن أصيب بذهان: عجيبة.. أمنا الغولة! المصانعُ مشاريعٌ ستجلب الخيرَ العميم مالاً صافيا لخزانةِ الأمة – بشرط حسن الدراية التجارية وفهم اللغز العالمي الجديد والمتعقد كل يوم - ولا أحد يجلبُ الخيرَ للأبناء مثل الأم، وكأن المنطقة الصناعية المزدحمة في الجبيل، هي أم تسقي خيرا، ولكن في اللبن ضِرارٌ، وفي اليدِ مخالب دفينة، وأنيابٌ وراء أضراس الضحكات، فتصير "أمنا الغولة".. وبالإمكان تدارك صفة الغولة، والحفاظ على صفة الأم الرؤوم بلا مخلب ولا ناب.. مع النهضةِ الصناعية الكبرى للجبيل الصناعية (ويلحقها التوأمُ المطابقُ في ينبع الصناعية) يجب أن تكون هناك ماصـّاتُ الصدماتِ، وضابطاتُ السرعةِ تماما مثل العربة المنطلقة في طريقٍ واسعٍ وفجأة باغـَتها مباغتٌ وسط الطريق.
 
وهذه الوقائيات هي التي سيناط بها تخفيف الصدماتِ التي من المتوقع جدا أن تعاني منها الجبيل وأهالي الجبيل والمنطقة، والبيئة على الإجمال.
 
أن يُفـَكـَّر – أولا - في إنشاء معهدٍ بيئي تقني يكون من الأفضل في العالم، ولا يكون "فقط" أكاديميا تعليميا، ليكون تطبيقيا فاعلاً، بحيث يكون هذا المعهد المتقدم مشاركا ليس من أول طوبة في المصنع، بل من أول رسمة قلم على الورق ليكون المتضافر ضمن خطوات المشروع في وضع حلول التلوث من مصنع بالذات، من منتج بالذات، ليخرج المصنع في النهاية بأقل عوادم أو مخلفات مضرة.. وليس بعيدا عن العلم الآن تقليب وإعادة تصنيع المخلفات، فقد نجحت بريطانيا وسنغافورة من سحب أكسجين خالص من بعض المصانع المختبرية .. وعلوم البيئة التطبيقية وهندستها وتقنيتها تضطرم في العالم المتمدين اضطراما .. لأننا لا نعيش بلا مصانع، وايضا لا نعيش بلا ماءٍ وهواء .. ومن يختلف لو قلنا إن حاجة الماء والهواء أولا؟! وأن تنشأ جامعة متخصصة للدراسات المعمارية والصناعية الكيميائية
 
 – ثانيا - وهي الغالبة والطابعة لمعظم مشروعاتنا لأن قيمتنا التنافسية المضافة هي بفضل البترول .. ويجب أن تكون جامعة طرازية وتُدرس من واقع الجبيل، وتكون بأنظمةٍ مرنة، وبحجم صغير متفوق، ومخصصة للعلوم التي ستستفيد منها مباشرة الصناعات والمصانع، ثم تتفاعل وتتكامل مع أجهزة تدريب داخل كل مصنع قبل الانخراط في العمل، ويكون خريجوها على اتصال دائم بالجامعة لغرضين: الأول متابعة البحوث واستلهام كل جديد، والثاني للمشاركة النوعية والمادية في التدريس والتدريب بما أنها ستحمل طابعا واقعيا يفوق التقليد الأكاديمي العام. ومؤسسة متفوقة جدا، ومجهزة
 
– ثالثا - وتكون من أفضل ما تقدمه تقنية العالم في وسائل وطرق مكافحة التلوث متى حدث في السماءِ وفي الماء، ومعالجة المشكلات المفاجئة مثل التسربات والحوادث، وأن يكون الملتحقون بها موفـَّر لهم أفضل وأنجع طرق التدريب التطبيقي وبحوافز ماديةٍ كبرى، ويختارون بعنايةٍ فائقةٍ كما سيخبركم طواشو الجبيل في انتقاء الدانات، إن كان ما زال منهم أحد موجودا. ومستشفى خاص أيضا، ملحق به أكاديمية تعليمية خاصة تستقبل وتدرب الأطباءَ بعد الامتياز لإعدادهم إعدادا خاصا للأمراض المصاحبة لعوارض الملوثات الكيميائية في تخصصات التنفس والجلد ومتلازماتها العديدة .. وأن يكون مستشفى مثل مصانعنا، من الطراز الأول المتخصص.. عندها تكتمل المنظومة، ولا نندم حتى لو لا قدر الله نشـأ طارئٌ، فنحن عندها عملنا كل ما وفي وسعنا.. وهذا ما يحاسبنا عليه الله.. ما في وسعنا!