كأسك يا وطن!
سنة النشر : 01/05/2009
الصحيفة : الاقتصادية
هل نحن نراوح في مكاننا؟ هل بلدنا لا يسير إلى الأمام كما نتمنى؟ هل أقدامنا مهشمة؟ هذه الأسئلة لا تكفي، فهي أسئلة الانطباع والمشاهدة والتجربة والنقد، ويبقى السؤال الآخر..هل فعلا تعدتنا دول الجيران التي كانت يوما شواطئ غافية بجانب البحر تغني مووايل البحّارة وتجر شباك الأسماك، وصارت تملأ الآفاق بتطور صار مضرب الأمثال، وموئل الأنظار، من كل الأقطار؟ والسؤال الملحوقُ بهِ لزما، لماذا؟ ويتبع أللماذا، إن أردنا أن نكون عمليين إيجابيين مبادرين للمساهمة في رفع قيمة عطاء البلاد في كل مجال، سؤالٌ قرينٌ ومكملٌ وهو: كيف؟ أحدثك عن نظرية لعالم اجتماعي إنساني، والعالم هذا اسمه جيمس فولوز، ونظريته اسمها "الحضارة (أو الثقافة) المهشمة" بترجمتي مقابل عنوانها الإنجليزي "Damaged Culture"، تُعنى بتلك المجتمعات التي لا تستطيع أن تلم شتاتها، ولا تحزم مجتمعة ًطاقاتها، فتنتثر الجهودُ، وتتباعد الطاقاتُ، وتضعف الانتماءاتُ، ثم تهتز مبادئ الأخلاق في إعطاء الأعمال كامل حقها العدلي الأخلاقي، والإخلال بمعنى العمل للبلد أو خدمة الآخرين، فنكون هنا أمام مجتمع مهتز الثقافة، زائغ المبادئ، ومشتت التركيز، ومتشظٍ في الجهود، ومتباعد في حقيقة الرغبات والأماني والآمال. هل هذا يعني أن مجتمعنا وصل إلى هذا الواقع الذي تحدثت عنه نظرية الثقافة المهشمة؟ نأمل كلنا ألا نكون قد انحدرنا إلى سفوح النظرية، لكن عمليا وواقعيا ومنطقيا أي تخلفٍ لابد أن تكون به هذه النظرية حاضرة بمستوياتٍ مختلفة، فعلينا أن نعي التالي: إما أنها حاضرةٌ كالشوكةٍ المغموسة بمخدر في أعصابنا، فيجبُ العمل على قلعها، وإما أن نعمل جادين وبعقل واع، ووجدان مدرك بألا نتعرض للشوكةِ إن لم تكن قد انغرزت في جسدنا الفكري والأخلاقي والعملي.. بعد.
وتحدثت مع مجموعةٍ بخبرات ناضجة، ومجربة، وكل في مجاله له خبرة سنوات. بعضهم يلوم النـُخـَبَ عندنا، ويقول إن النخبَ هم سبب تعطل المفهوم العملي، إما بالتنظير الخالص، أو الانتقاد التعجيزي، أو الغياب عن الفهم المعاشي للناس، أو تنفيذ أجندات اخرى مصلحية وضارة، أو المصادمات مع الذوق والذائقة السائدين.
والبعض أشار بشدةٍ إلى تغييب الرأي النافع بمزاجيةٍ واضحة وقصور في مفهوم الضار والنافع للبلاد في الصحافة، فكم من مقال ضار يُنشر لأن المسؤولَ في الصحيفة يعتقد أن هذا لن يؤذيه بتوجيه اللوم من وزارة الإعلام، أو من مسؤولين آخرين. وكثيرٌ.. كثيرٌ جدا من المقالات النافعة وحاملة الحلول وكاشفة المشكلات وبصراحةٍ تنم عن حبٍّ وطني خالص تـُمنع ليس إلا تخوفا شخصيا وليس من أجل النظرة المصلحية العامة، وهذا شاع جدا في الآونة الأخيرة، فلا تجد كاتباً إلا ويعاني كيفية بث مواضيعه لأن المنعَ والحجبَ صار ديْدنا وعادة، والرقيبُ داخل الصحف يتبع مبدأ "من خاف سلم"، ثم ازداد طيف هذا الخوف حتى صار الخروج عنه ضيقا محصورا، وكم من كاتب تساءل: "إذن ما بقي لي من المواضيع التي أكتب عنها؟"، وهنا لو نعلم، وتعلم وزارة الإعلام، كم من الرؤى العظيمة التي فقدناها بسبب تعنت عقولٍ تعتاش على المنع.. وهذا أهم مسببات مجتمع الرأي المهشم.
وعجيبٌ أن يكون الرجل الأول في البلاد يطالب بالنقد، ويصرح بشجاعةٍ أنه ينقد نفسه نقدا دقيقا، ثم تزداد موجاتُ المنع! ويثور سؤالٌ إذن: من الذي يفهم في مصالحة البلاد العباد والبلاد أكثر؟ هل هم القابعون بأقلامهم الحمراء؟ وما هي إذن مؤهلاتهم كي يتحكموا في آراء أبناء الأمة، خصوصا الكبار المخلصين منهم؟ لن تتجمع شظايا مجتمع بدون رفع سلطة الرقيب، وتحديد مسؤولياته بأن يكون في الأخلاقيات والتأدب العام ، ثم ترك الباقي مفتوحا لتجادل العقول، وطرح مختلف الحلول. هل نحب بلدنا؟ سؤالٌ آخر لابد أن نجيب عنه بصراحة مطلقة وبشجاعة؟ من الصعب الكشف عن النوايا، أما الأعمال فهي التي تدل ببرهان عن مدى الحب.
وحب البلاد هو العمل من أجل صالحها أولا وأخيرا، لا أكثر ولا أقل.. إن الفسادَ وسوءَ التصرفِ وتقديم المصالح الضيقة من أي شخص كان إنما هو دليل لا يُدحَض على أن من يرتكبها لا يحبُّ البلادَ ولا يكترث لها ولا بأهلها، ومهما أوتي من القوةِ والذكاءِ والعلم فهو سيوظفه لضرر الأمة وليس نفعها.. وهذا سائدٌ جدا في أي مجتع لم يفز بالتقدم والخطو للأمام.. وقد يكون أكبر علاته.
والحل ليس هو فقط المساءلة، ولكن أولاً حسن الاختيار، وبما أننا لا نملك معرفة ما في القلوب، وتغير الناس عند تسنم المناصب الكبرى، فلا بد بنظرية المسابقة والتطبيق والمقارنة.. أي أن نختار أكثر من شخص للوظيفة الكبيرة مع خطة موضوعة قصيرة وطويلة الأجل لكل متقدم، ومن يفز وتقبل خطته تراقب الخطة بالمقاييس الرقابية المعروفة، ومن يحد عنها فلا بد أن يساءل علنا.. رفعُ الستار عن العاملون الكبار وهم يعملون طريقا آخر لجمع شظايا الأمة.
لابد أن نعلـِّم أجيالـَنا الحبَّ الحقيقي للوطن وهو بتقديم العمل المخلص، وبذل شيء من منافع النفس تقديماً للمصلحة العامة، وقبل كل ذلك أن يكون الكبارُ هم القدوة وبهم الاقتداء.. وإلا فإن الإيمانَ بالأرض والوطن والانتماء سيكون مجرد كأسٍ مهشمة!