أرامكو .. لماذا سحبتم حصانـَنا؟
سنة النشر : 01/05/2009
الصحيفة : الاقتصادية
كلّ مرّةٍ أزورُ فيها الفلبين، أرفع رأسي فعلياً ومعنويا لشعار "بترون"، وهي شركة البترول الكبرى في الفلبين، وتصفي ما يقارب 18 ألف برميل يوميا من النفط، ما يغطي نحو 40 في المائة من احتياجات البلاد للوقود. وتملك أكبر شبكة من محطات بيع البنزين والديزل بعددٍ يتجاوز الـ 130 محطة عبر البلاد.
أما لماذا أرفع رأسي فعليا؟ لأن شعار الشركة دائما ما يكون معلقا على لوحاتٍ عالية، وأما رفع الرأس المعنوي، فهو فخري الداخلي بأن شركة أرامكو تملك حصة كبرى في الشركة مساوية لما تملكه الشركة الحكومية، ويبقى 20 في المائة مشاعا في سوق المال.. وكان برأيي أن ذلك الاستثمار من أجمل استثماراتنا وأذكاها في بلدٍ أهم ما يربطنا به أعمال خاصة، منافع الخدمات البشرية.
فالفلبينيون يديرون أو يساعدون في إدارة وتشغيل أهم مرافقنا. وما أقصد بالحصان هو حصان طروادة، نسبة للأسطورة الإغريقية في ملحمة الأوديسة لهوميروس، حيث ترك الجيشُ الإغريقي حصاناً خشبياً ضخماً، بعد أن أوهموا أهل طروادة بأنه هدية لهم، بينما اختبأ داخله مجموعة من الجنود الأشداء. وعندما رحل الجيشُ وجرَّ السكانُ الحصانَ إلى داخل أسوار المدينة، خرج الجند منه وانقضوا على الحامية، وسقطت المدينة في أيدي الإغريق. فقد كانت "أرامكو" وهي شريكة في إنرون حصان طروادة السعودي داخل الحصون الفلبينية، على أن حصان الإغريق كان لغرض الحرب والاحتلال، وحصانـنا كان لغرض السلم ورسالة توضح صورة جميلة لنا كمستثمرين عالميين محترفين، وتـُقدِّمنا كأفرادٍ من أكفأ المديرين الدوليين، ويعزز علاقاتٍ اجتماعية وسياسية غير مباشرة، وفي غاية التأثير مع الفلبينيين.. كانت من أذكى الخطوات، ليس فقط لـ "أرامكو"، فهي تستثمر في أماكن كثيرة عبر ذراعها الدولية أرامكو العالمية.. ولكن كسعوديين من أفضل ما قمنا به في الفلبين قاطبة.
و"أرامكو" ذاتها تحتاج إلى الفلبينيين كأفراد، فمقاولو "أرامكو" يشغلون عشرات الآلاف من الفلبينيين داخل أهم شرايين "أرامكو"، وهم أنموذج عملي مهم ومتطابق مع إجراءات "أرامكو" المبنية لزماً على الطرائق الأمريكية، فـ "أرامكو" والفلبين رضعا من ذات الضرع الإداري، وهذه حقيقة، فهما يتكلمان الإنجليزية الأمريكية بطلاقة، وكل ما يتعلمه الفلبينيون في المدارس والجامعات والمعاهد على الطريقة الأمريكية، ويتميزون بمهاراتٍ فرديةٍ شهد لهم فيها كل العالم.. وأرسلت دولٌ مثل اليابان ونيوزيلندة وأستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا وفوداً للتعاقد مع العاملين الفلبينيين، أما في القطاع الصحي فهم الأكثر طلبا في العالم، لدرجة أن دولا كاليابان والولايات المتحدة تتبنى معاهد صحية بالكامل داخل الفلبين للتعاقد مع خريجيها، وأمريكا تعطيهم البطاقة الخضراء تحضيرا لتجهيزهم للجنسية الأمريكية.. ونحن نجد منافسة ضارية للتعاقد مع المهنيين هناك في التقنية والصحة والبناء لضغط الطلب العالمي.. ويبقى أن المملكة العربية السعودية الدولة الأكثر شهرة في الفلبين مباشرة بعد أمريكا، والعامـّة تعتقد بأن كل الشرق الأوسط والخليج هي السعودية.. لذا كان حصانـُنا قد تموضع بعبقريةٍ داخل القلعة الفلبينية، وبدأ يعمل ببراعة.. أو هذا ما اعتقدت.
تبين الأمرُ أنه لم يكن مخططا ولا عبقرية، هي ملحقاتٌ صادفت الصفقة لا غير.. يعني ما كنت أحسبه تحركا لوجستيا منسقا وأنيقا لا يأخذ صورة سياسية مباشرة، ضمن براعة جراحية دقيقة في دخول الأنسجة الفلبينية كان مجرد تصور.. ورقبتي التي كانت تتطلع فخرا تبين أنها تنظر لمجرد لوحة.. ففي يومٍ استوائي ممطر وكئيب في آذار (مارس) الماضي كنت أتصفح "الهيرالد تريبيون".. وقفزت عيناي من كهفيهما.. وتلمست يدي طريقها إلى قلبي، فرئيس مجلس إدارة الشركة الحكومية الشريكة في بترون يصرِّح: "تلقيت اليوم رسالة من أرامكو السعودية تريد فيها أن تبيع حصتها في بترون.." "يا ساتر!" كل ما قلته.. من القلب. في العام 1994 خطت "أرامكو" خطوتها الكبرى داخل الأرخبيل الفلبيني واشترت حصة كبرى في "بترون" بعد أن قررت الحكومة الفلبينية تخصيصها.
وكانت وقتها من أكبر الأحداث في كامل الأمة الفلبينية.. وكان نوعا من الفتح للاستثمارات السعودية البناءة، وفي تلك السنة كسبت "أرامكو" لقب الشركة الأكبر شعبية في استفتاءٍ لإحدى صحف العاصمة.. وكان المبلغ الذي دفعته "أرامكو" 535 مليون دولار. وهو مبلغ لو ضحت به "أرامكو" من أجل كسب دائم داخل الفلبين لكان هذا الرقم سعرا رخيصا لكنز مفتوح من السياسة الثاقبة وكسب ولاء أمةٍ يخدم أبناؤها وبناتها في أكثر مرافقنا حيوية.. ولمن يملك "رؤية" كانت الفلبين ستكون مزرعة لغذائنا، وتعزيزا للسلام في مناطق المسلمين في الجنوب.. هاه.. إذن لم تكن عقول "أرامكو" تفكر في استراتيجيةٍ دوليةٍ اقتصاديةٍ ولا مستقبليةٍ، بل هم قـُرّاءُ جداول محاسبية لا أكثر ولا أقل. وكان هذا مؤلما. تقدمت شركة طاقة كبرى مسجلة في بورصة لندن اسمها " أشمور" بأصول تقدر بـ 40 بليون دولار لشراء حصة "أرامكو" المعروضة للبيع بثمن قدره 550 مليون دولار ( ويجب أن تعرف أن الدولار هبط كثيرا أمام البيزو الفلبيني) .. والأغرب أن الشركة تلك كانت متجذرة في السوق المالية الفلبينية وشريكة في "مايلاند للمياه" لأكثر من 12 عاما.. مما حدا بالرئيسة الفلبينية بأن تصرح وقتها بأن شراء حصة "أرامكو" من شركة دولية عاملة في الفلبين يدل على رسوخ ومرونة نظام الاستثمار الأجنبي. فماذا رأت عقول شركة أشمور، ولم تره عقول "أرامكو"؟ سؤال لن أبحث في إجابته.
ضحت "أرامكو" بنتائج أكبر ولا تعود علينا بالنفع فقط بل على أعمال الشركة وبشكل حيوي مباشر من أجل فكة دولارات بالنسبة لحجم أعمالها من ورقة تقرير من خبراء لا تهمهم الفائدة المضافة التي خلفتها "أرامكو" وراءها.. وسُحب الحصانُ من مانيلا.. وبداخله لم يكن جنود أشداء بل هواء وتقارير محاسبين.. ومالٌ وجهدٌ ضائع.
هل يعود الحصان؟ الإمكانية موجودة، والسؤال: من يكون داخل الحصان؟