السوبرمان السعودي

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية


أي محاولة أحادية رسمية إعلامية أو دبلوماسية لإظهار صورتنا مشرقة في الخارج لن تجد النجاح إن لم يعاضدها الأفرادُ. الأفرادُ هم مرآة أي أمة.

عندما التقيتُ في الشرق بأول حالات الأبناء المتروكين بالخارج، كانت البنتُ الشهيرة (سلمى) التي كتبت عنها أكثر من مرة، وعلق على موضوعها كثير من الكتاب وأقيمت من أجلها الندوات والمنتديات، تصحبها أمها، وكان الحديثُ يدور بينهما باللغة المحلية الفلبينية، وهي لغةٌ هجينٌ من كلماتٍ إسبانيةٍ قديمةٍ ولغاتٍ محليةٍ دارسةٍ، وكلمات إنجليزية كثيرة.. وأسمع بين حين وآخر كلمة "سوبرمان".. لو أنها تكررت مرة لما ألقيتُ بالاً، ولكنها كانت تتكرر مرارا. ولو أنها ترددت في غير موضوعنا الجاد الباكي لما ألقيتُ بالا. ولكن أن تطفو الصفة على حديثٍ يتعلق بصميم وجود الفتاة وأمها فلا شك أن لكلمة "سوبرمان" هذه مغزى. وكان لا بد أن أسأل.

 ضحكت البنتُ والأم لما سألتهما، وقالتا بصوت واحدٍ وباسم، وكأن مصباحاً أشرق فجأة في وجهيهما وسط ستارةِ الأحزان: "إنه السيد عبد العزيز". أما السيدُ عبد العزيز، فهو الأخ "عبد العزيز الرقابي"، والذي كان مسئولا عن قسم الرعايا السعوديين في السفارة السعودية في مانيلا، وأقلّ ما يقال بحقـِّة أنه أبلى فيها بلاءً حسنا، وترك مسؤولية جسيمة لمن بعده. أهم صفاتِ "عبد العزيز الرقابي" أنه لا يمارس عملـَه، وواجبـَه على أفضل ما يكون أمام ربـِّهِ ثم أمام التزاماتِهِ الوظيفية، ولكنه كان بالطبعِ والطبيعةِ يمارس إنسانيته. وإنسانية عبد العزيز تجعله يهرع لمساعدة أصحاب القضايا والمسائل مهما تعثرت، ومهما تشابكت، مهما نأت ومهما صعبت.. لذا كان يجب أن يستحق صفة أخرى بالنسبة لمن يعرفه.. فكان أن أطلقت عليه سلمى وأمها لقب "السوبرمان" وذهب اللقبُ صفة.

لأن سوبرمان لا مهمة له على كوكب الأرض إلا إنقاذ البشر، مهمة الإنقاذِ تجري في دماء السيد الرقابي، وبالتالي فهي له تسيير وليس تخييرا.. إنه يمارس ما تمليه عليه تركيبته الحيوية.

حين ترك أبو سلمى ابنته الغضة لعبة في أيادي الفقر والحاجةِ، في وسَطٍ من أكدار الحياة من أجل التقاط الرزق، تلقاها عبد العزيز الرقابي، وتبنى قضيتها من عشرات القضايا التي يتبناها، وتحسبهُ من عمق تعلقه بكل قضيةٍ أن ليس له إلا هذه القضية، وحاول أن يجنب الفتاة وأمها مزالق الظروف ما أمكنه، حتى أنهما قالا لي أنه كثيرا ما ساعدهما من حرِّ مالِه.. ومالُ عبد العزيز ليس أرصدةَ متينة في البنوك، فهو موظف من الموظفين، ولكن في قلبه رصيدٌ إنسانيٌ يضعه على قائمة الأثرياءِ، الأثرياءُ الحقيقيين.

وعبد العزيز يتابع القضايا بحرقةٍ وكأنها قضاياه الشخصية، بل أظن أنها لو كانت قضاياه لما تابعها بهذه الحماسةِ والإصرار والعناد.. لم يتصل أحدٌ بأبي سلمى كما اتصل عبد العزيز، وهو عندما يتصل بآباءِ الأبناء والبنات المتروكين لا يتلبسُ إهابَ الوظيفةِ الرسمية، ولكنك تراه يترقق ويتعطف ويتوسل ويشرح ويُسهِب ويصرّ في قالبٍ بديع من ألطف الأساليب وألمعها وألطفها أدباً وتهذيبا.. إنه يذيبُ قلبـَك حين تستمع إليه محاورا الآباءَ من أجل أن يعترفوا بأبنائهم. وهو لا يترك دليلا إلا ويبحث عنه،ولا أثرا إلا ويقتفيه.. حتى أنه يوما عثر على والد إحدى الفتيات المتروكات من اسم يظهر بملصق صغير على منتج سعودي فتتبعه حتى وصل إلى الشخص المطلوب، وكان بالفعل أبو البنت، وخاف من الاعتراف بها خوفا من اللوم وارتباك حياته مع أسرته في المملكة.. يخافون على أنفسِهم ولا يخافون على أبنائهم.. الأنانية في أقصاها.

والسيدُ الرقابي يتابعهم حتى في إجازاتِه، حتى في وقته مع أسرته.. كما قلنا إنه لا يمارس عملا فيما يخص أي سعودي مهما كان.. إنه يمارس حبا إنسانيا غالبا. يروي السفيرُ محمد ولي عن عبد العزيز أنه تأخر يوما في حضوره للمكتب على غير عادة.. وجاءه الجوابُ حين وصل عبد العزيز مشوش المظهر على غير أناقته المعروفة ( فمن صفات عبد العزيز الرقابي المظهر القشيب والأناقة الرسمية الكاملة، التي تضفي على حسن مظهره وسامة فوق وسامته.) ثم عرف أنه كان مع سجين سعودي كل الليل، ولم يخرج إلا وقد حلّ قضيته: "لا أنام وسعودي مسجون.. لن أتركه يسجن وراء قضبان الغربة، أخرجه بأي وسيلة، وليتلقى الجزاء المناسب هناك في بلدنا.."، وصدقوني قولٌ وفعل.

وكثيراً.. فعلٌ بلا قول! لن تسعني الصفحة، ولا صفحات تالية للحديث عن شخص استثنائي لسعوديٍّ لمّع سمعتنا بالخارج أمام أبنائِنا ومواطنينا وأمام كل من عرفه.. قال لي عبدالله المطوع سفير قطر: " يا أخي هذا إنسانٌ حقيقي" ضحكت، وقلت له نعم إنه : "سوبرمان!" واجتمعنا في بيت السفير حين أقام للسيد الرقابي حفلة وداعيةٍ لانتقاله قنصلا في سفارتنا في إندونيسيا، وقلت للجميع: "إني لست حزينا على ترك عبد العزيز، فجيد أن ينتقل رجلٌ مثاليٌ مثله من بلدٍ إلى بلدٍ ليعكس السمعة التي نتمناها لبلدنا.."، ولكن عبد العزيز كان قد مارس عملـَه في ذهنِه ومخيلته في جاكرتا وهو معنا، لأنه رد علي:" يجب أن تأتي هناك لنؤسس رابطة للسعوديين كما فعلتَ بمانيلا.. فهناك الكثيرُ من الحالات تنتظرنا.." هه، لقد طار السوبرمانُ إلى جاكرتا وهو في مانيلا! هاتفت عبد العزيز قبل الأمس من جاكرتا بعد أن أرسل لي رقم هاتفِه الجديد، ولما سألته عن حاله.. أجاب بصوته الهادئ المطمئن: "يا أخي.. ألا يكفي أن تفتح النافذةَ فجراً على النسيم والأشجارِ والزهر.. وصوتُ المؤذن يصدحُ لصلاةِ الفجر.." هكذا عبد العزيز لا يتلمس إلا الجمالَ والنور.. وفي جاكرتا بعد آذن كل فجر سينتظر عبد العزيز الكثير من الأعمال وسيكون كما هو دائما جاهزا.. للإنقاذ! نقدمه صورة، وأمثولة لموظفينا في الخارج.إنهم جبهة سمعتنا الأولى في العالم.. هذا أول ما فهمه عبد العزيز فتبناه تطبيقا وعملا.. ومظهرا.

وتذكروا وأنتم في حاكرتا، لكم أخٌ وصديق.