أبـِصَـدْرٍ مفتوح؟!

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
عناصرُ حياة الأمةِ تتلخص في الآتي: حقائقٌ حدثتْ، وتجاربٌ تحدثُ، واحتمالاتٌ ستحدث. فقط.. عندما يختل عنصرٌ منها فإن الأمة لا وجود لها، وبما أن العنصرُ الأول حادثٌ بحتميةِ ما مضى من التاريخ، والعنصرُ الثاني يحدث بواقع جذبِ الحياة اليومية.. يبقى إذن أهمُّ العناصرِ التي يعتمد عليها تدرج الأمم في سلم التطور، أو العنصر الأوحد، وهو عنصرُ المستقبل.. أو التخطيط للمستقبل.
 
ولنتذكر أن الماضي كان قبلُ مستقبلاً، فإن كان الماضي مليئاً بالعثراتِ والسيرِ الأعرج في مسالِك التطور فمعناه أنه لم يكن هناك استعدادٌ له وهو في ضمير القادمِ من الأيام.. وكذا، إن كانت أحداثُ وتجاربُ الحاضرِ باهتة وشاحبة ومتخبطة فإن ذلك دليلٌ أكيدٌ لقِلـّةِ الإعدادِ، أو سوئهِ، حينما كان الحاضرُ علماً في ضميرِ الغيب.. وبالتالي، فإن أمة لا تخطط لمستقبلِها، يجب ألا تتعجب إن عاشت معاناةً في إدارة شؤونِها وخدمات شعبها, ولا تتعجب أيضا إن كانت الأمةُ تقف على أصابع قدميها لترد كراتِ أفعالٍ تترامى عليها من كل جهةٍ، ولم تستعد لها في الأصل، فلن يكون هناك تصدّي مدروس، بل بعثرة الكراتِ كيفما اتفق حماية للجسدِ العام.. ولا يكون هناك مسارٌ ولا هدف، إنها فقط محاولة "النجاة في اللحظة"، وخطرُ محاولاتِ النجاةِ في اللحظةِ أنها تعقـِّدُ الصعابَ في كل ساعةٍ تدقّ للأمام.. معرفة ما يجب أن نتوقعه من أحداثٍ وأمورٍ في المستقبل ليس خياراً بل وسيلة بقاء.
 
لذا فإن المجتمعاتَ التي تسري فيها التوقعاتُ المنظمة والمدروسة حسب معطيات التاريخ، ومعطياتِ الحاضر، ودراسة التغير الحسابي الرياضي للمستقبل في كل ما يتعلق بنشاطات ومرافق الأمة، وتكون في أغلبها توقعاتٌ جيدةُ الدراسةِ والتحميص، وبالنتيجة تكون التوقعاتُ قابلةً للتحقيق، هي مثل أن تذهب لساحةِ معركةٍ وأنت كامل السلاح، وتملك توقعاتـَك في طريقة تفكير خصمك حتى لا تأخذك خططـُه على حين غرّةٍ.. فتُهزَم.
 
ونقول إن مجتمعاً توقعاتـُه المستقبلية "قابلة للتحقيق" هو مجتمعٌ منظـَّمٌ بصرفِ النظر عن إن كانت التنبؤاتُ المستقبلية تنذرُ بالبشائرِ، أو تحذر من سُجُفِ الظلام.. المهم أن تكون مستعدا ومُعـَدّاً في الحالتين، أن تكون جاهزاُ بأدواتِك لحصدِ ثمار البشائر بحسن استثمارِها وحكمةِ استغلالها، ومتأهِباً لزحفِ الظلام بأن تكون مستعدا بالمصابيح، أو تعرف على الأقل أين بالضبط موقع مفتاح النور.. إننا عندما نكون مجتمعاً بلا "توقعاتٍ قابلةٍ للتحقيق" فنحن كمن يضربُ المفازاتِ بسماءٍ معتمةٍ، ولم يحمل معه خريطة يستدلّ بها على المسالِك والدروب، كمن يُبحِرُ في عرض اليمِّ الصاخبِ بلا بوصلةٍ حين تنأى السواحلُ وتختفي مناراتُ الإرشاد. خذ من الأمثالِ ما يُساق عِبـَرا..ً
 
هذه الظاهرة التي تتحول إلى مآسٍ اجتماعيةٍ في عدم استيعاب الجامعات للخريجين والخريجات من الثانويات التي تتكرر كل عام من دون حلولٍ مستقبليةٍ استراتيجيةٍ تـُبنى على تزايد الأعداد، وحاجات السوق، وتغير نظم التعليم الجامعي، والتوسع في فتح الجامعات حكوميا وأهليا.. ومدنيا (عن طريق مؤسساتٍ مدنية لا بد أن توجد قبل ذلك).
 
ظاهرةُ عدم القبول في الجامعات توقدُ غضباً واندحاراً نفسياً عنيفاً لدى أهم ممتلكات الأمة وأنفـَسَها وهي "الروحُ الشابة"، متى فقدناها فقد فقدنا اتزان بنيةِ وتربةِ وجذر الأمة. لن تنتهي الأزمةُ اليوم ولا في الغد، ولكن يجب وضع خطةٍ طويلةٍ الأجل وقصيرة الأجل، بعد عقدٍ من الزمن سيكون الخريجون والخريجات أضعافاً مضاعفة، ولا بد أن يكون هناك لكلٍّ منهم فرصة اختيار للدراسة الجامعية متى أراد.
 
حتى الآن نحن نعتمد على سياسة ردّ الكرات بالتلقائيةِ العكسية، وليس صدها وإعادة توجيهها.. بل كثيرا ما يحدث أن الكراتَ تضرب بالصدرِ المفتوح. - ظاهرة الإسكان، والمرافق، وما يبرَّر بعواقبِ الضغط السكاني، وهنا يجب أن نقف متأملين، فكيف لدولة شبه قارةٍ أن تفيض عبئا بما لا يتجاوز عشرين مليوناً بينما دولة بأرخبيل مساحتها سُبع مساحة المملكة وسكانها يتعدون مئة مليون يعيشون رغـَدا.. إذن هي مسألة وجوب وجود "التوقعات القابلة للتحقيق" الآن وفي الحال لسنواتٍ قادمة.
 
إن الأخذَ بالمفاجأة هو معادلٌ لغياب الخطة، وليس لتفاقم مشكلة. - الدراساتُ الاجتماعية المستقبلية، لو كانت موجودة لما صارت لدينا الآن مظاهرُ البطالةِ والجريمةِ والفقرِ والمذهبيةِ والقبـَلية وفلول التعصب الإرهابي بهذا الصعود.. كان لا بد من توافر توقعاتٍ قابلةٍ للتحقيق أن التغيرات الظرفية والزمنية وتزايد السكان وتعقد الحياة وجلب ملايين العمالة سيُحدِث تغييراً صدعياً في المجتمع لتجهـَّز الخططُ وتوضع سُبل الوقايةِ وتكتيكات الحلول لمّا تظهر بوادرُ الصدوع.. لذا، علينا البدء بالإيجادِ لجنةٍ مستقبليةٍ للتخطيط المجتمعي، تعادل لجنة الأمن القومي، تتفرغ لتوقعات المستقبل "القابلة للتحقق". لا.. لم نتأخر بعد.
 
يمكننا أن نبدأ بجدِّ واحترافٍ ورصدٍ علمي وعملي الآن. فالمستقبلُ، لحسن الحظ، ما زالَ مستقبلا!