لن أسامحَ نفسي يا عائشة

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
لقد حرتُ طويلا، وسهرتُ كثيراً في الأيام الماضية، ومريضةٌ سعودية في تايلاند معلقة بين برزخ الحياةِ والموت.. تهشمت أعصابي وبداخل رأسي يضج صوتُ أخيها سلمان الخالدي: "أختي تموت، وقد تكون أنت سبباً في نجاتِها، أو في موتِها، إن تـُركِت بلا علاج، وعلاجُها موجودٌ في ألمانيا والولايات المتحدة"، يهاتفني باكياً متضرِّعاً راجيا، وكأن بيدي القرار.. ولكنه يتعلق بقشةٍ، وعلى القشةِ أن تنقذ الغريقَ حتى وهي تدرك ضعفـَها وقلة حيلتِها وصغرَ قدرها.. والحقيقة المريعة أن "عائشة الخالدي" تصارع من أجل حياتها، والمرضُ (مرض الرحمة) يتعدى أماكنـَه الأصلية في أعضائِها، ليمتد إلى الجلدِ وباقي الجسد، وأهلـُها الذين خسروا - كما قال أخوها - الملايين من جيوبهم ومن قروض من كل مكان جفـّوا تماما، من المال، ومن الدموع، ولم يبقَ إلا الدعاءُ، وأن يصل رجاؤهم الوحيد الآن في هذه الحياة إلى قلبِ المسؤول الأول في وزارةِ الصحة، والهيئات والمكاتب الصحية في الخارج، لتـُرْسَل عائشة حالا إلى ألمانيا أو الولايات المتحدة.. أرسل لي سلمان موافقة من الملك عبد الله، وتأكيداتٍ من مكاتب الصحة ذاتها بأن لا علاج لها في المملكة.
 
وقمتُ باتصالاتٍ من جانبي، وفهمتُ من مسؤول بالصحة أن العلاجَ المتوافر في الخارج هو علاجٌ تحت التجربة، وأن العلاجَ الذي تتلقاه عائشة في تايلاند موجودٌ في المملكة. ولكن سلمان يرسل أوراقا تثبت غير الكلام، ورسالة إلكترونية من مركزٍ علاجي أمريكي يؤكد وجود العلاج، ويطالب بإيداع ضمانٍ مالي أو تحويل من المكتب الصحي السعودي بواشنطن.. سلمان يصرخ، ويبكي، ويقول: "حياة أختي بأعناقِكم.." لم يبق لعائشة إلا مدة قليلة في هذه الحياة، ألا نفعل شيئا؟ هل نتركها تموت ونحن ننظر؟ هل الأوراق التي أكدّت ضرورة إرسالها كـُتِبت في ليلةٍ بلا ضوء؟ هل نحن حراسٌ على المال، أم حرّاس على المرضى في وزارةِ الصحة؟ هل نعشـِّم الناسَ بأغلى ما يكون، ثم نتخلى عن وعودنا كمن يخلع ثوبَ الأمس؟ هل تحجـّرت حواسـُّنا فلا نكترثُ لأن المرضى وأهلهم حبالٌ رهيفة من الأعصابِ ونسيجٌ هشٌّ من العواطفِ، وعلينا أن نحميها ونقدّرها؟ من نحن بالضبط؟ من الموظف بالضبط؟ هل الموظفُ يخدم الناسَ، أم يقف حارساً متمترساً يستعرض مدى سلطتِه وجبروتِه؟ ثم هذه "اللا"، وهذا الرفضُ، ألا يأتي رقيقاً؟ ألا يتصدقون على من يرون الموتَ يغمز شوكتـَه في عيونِهم وقلوبـِهم ووجودِهم بكلمةٍ هانئةٍ، ويطيبون خواطرَهم، ماذا صرنا؟ ولأي مخلوقاتٍ تحولنا؟ هل ازدراءُ الرحمةِ، والمروق بين القوانين، ودهس الوعود صار ديـْدَنا، ونصّا في نظام كبقرةٍ مقدسة؟ ولكني أؤمن باللهِ العظيم، وأؤمن أن اللهَ لن يتخلى عن عائشة ولن تـُعدَم القلوبُ الرحيمة المؤتمـَنة على حياة الناس - قبل الأموال - في وزارةِ الصحة..
 
وهنا بعض ما كتب لي سلمان، شقيقُ المريضةِ عائشة الخالدي، وبقية الوثائق أرسلت للجريدة: "الأستاذ / نجيب الزامل نلجأ إليك بعد الله، وكلنا ثقة بإنسانيتكم . شقيقتي عائشة بنت سالم الخالدي أصيبت بالمرض الخبيث، منذ أكثر من سنتين وعولجت في مستشفيات داخل السعودية ومنها مستشفى أرامكو السعودية ومستشفى سعد الطبي وجميعهم أفادوا بأن حالتها حرجة ولا يمكن علاجها، ونصحونا من مروا بنفس التجربة أن نأخذها إلى مستشفى (بمرنقراد بتايلاند ) والحمد لله بدأ التحسن يلاحظ على شقيقتي، ولكون تكلفة العلاج باهظة تقدمنا إلى مقام خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، يحفظه الله، وأمَرَ بتحمل كافة مصاريف العلاج.
 
وبعد ثلاثة شهور فوجئنا بتوقف العلاج، وبعد مراجعتنا لمدير الهيئات الطبية والمكاتب الصحية بالخارج أفادنا أنه لا توجد ميزانية لتكملة العلاج ومتى ما زودنا بالمبالغ المطلوبة سوف ينظر في الموضوع، وننصحكم بتكملة علاجها في السعودية لأن علاجها متوافر. وبناء على ذلك، أرسلت التقارير إلى مركز الملك فهد التخصصي في الدمام لعلاجها، وبعد مراجعات دامت أكثر من أربعة أشهر أفاد مستشفى الملك فهد التخصصي في الدمام ومدير الهيئة الطبية في الدمام أنه لا يوجد لها علاج في المملكة ولا جدوى من رجوعها من تايلاند والعلاج غير متوافر، ولا علاج لها إلا في ألمانيا أو أمريكا حسب تقريرهم. ولكن إدارة الهيئات الطبية والمكاتب الصحية في الخارج في الوزارة تبنت موقفاً سلبيا معارضا مع كل ما صار، علماً بأن تكاليف علاجها، وأكثرها ديون، وصلت إلى الآن تسعة ملايين ريال.
 
فأرجو من الله ثم منكم إعادة البسمة لوجوهنا وأن تكون سببا في شفائها ويجزاكم الله خير الجزاء فقد أقفلت جميع الأبوابِ في وجوهنا. مقدمه/ سلمان بن سالم الخالدي" لو قدر اللهُ الموتَ لعائشة والدواء موجودٌ في الخارج فعلا، فلن أسامح أنا نفسي أني ضمن مجتمع سمح للتصخر العاطفي، أو حراسة عنيدة للمال، أن يكون أغلى مِن أنفـَس ما خلق الله على الأرض: حياةُ إنسان.
 
لن أسامح نفسي.. أبدا!