هل تجربة المجالس البلدية ناجحة أم فاشلة؟

سنة النشر : 27/04/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
كان شعوراً غامرَ الجمال، ومليئاً بشريطٍ من الذكريات، وأنا أصل لمدينة رحيمة بالمنطقة الشرقية، ورحيمة هي الضاحية التي تخدم مرفقات وتشمل المجتمع القريب لميناء رأس تنورة حيث واحدة من أعرق مصافي النفط في العالم.
 
ورحيمة هي المدينة التي فتحتُ عيني على العالم فيها، وقضيت فيها سني حياتي الأولى.. لذا كان شريط الذكريات مفعماً حياً ومؤثـِّرا. وكنت قد وصلت لمشارف المدينة التي أخذَتْ إعجابي كاملا بتنسيق مداخلها، ونظافة نواحيها، وأناقة المباني حولها، وكانت تلك المناطق أيام طفولتي بحراً أزرق ممتدا للصيادين والسابحين. وحضوري تلبية لدعوة للمشاركة في جلسة عمل ونقاش في لقاء المجالس البلدية الأول الذي أشرفت على إقامته الجهاتُ العاملة ببلدية رأس تنورها ومجلسها البلدي. وكنتُ واحدا من مشاركي الجلسة التي رأسها الدكتور عبد المحسن العرفج عميد كلية الهندسة بجامعة الملك فيصل، وأدارها بلطفٍ ولباقة، والمشاركان الآخران هما رجلُ الإعلام العريق سلطان البازعي، وله دور مؤثر يسجل في تاريخه بتأسيس أول أفكار المجالس البلدية في المملكة، والدكتور صلاح الردادي، وهو زميل كتابة أيضا، رئيس المجلس البلدي في المدينة المنورة.. وكان التفاعلُ شفافا.
 
في رأيي أن المجالس البلدية ولدت وفيها من تهويمات الأحلام والخيالات والطموحات أكثر من وقائع مبنيةٍ على أرض تقنينيةٍ واضحة، وإن كان الأخ البازعي قد شرح لنا أن الأميرَ منصور بن متعب نائب وزير الشؤون البلدية والقروية والبلدية كان مُدركا لما قد تقود إليه حماساتُ المرشحين فوجَّه بأن تكون الحملةُ وما تحمله من شعاراتٍ واقعية ومحصورة، ولكن الذي تم شيءٌ آخر تماما، فقد سمعنا بوعودٍ انتخابية كادت تعد المواطنَ بضياعٍ تجري حولها الأنهار.. مع أنه لا ضياعَ ولا أنهارَ في البلاد.
 
ولكن مرجع هذا الفورُ الحماسي بالشعارات والوعود لأن المرشحين أنفسَهم لم يتلقوا تعليماتٍ وإحاطة مدروسة في برنامج مُعَد يسبق الانتخاباتِ حتى يعرفوا ما هي مسؤولياتهم تماما، وما هي قدراتهم، وما هي واجباتهم، وما هم مخوّلون أن يعدوا به من عدمه.. ولأن هذا لم يحصل فقد طارت الأحلامُ للذرى.. لِمَ لا.. فمن يمنع البخارَ أن يرتفع في الأجواءِ لينزل على الأرض أحلاما؟ ولأن المجالسَ البلدية لم تأخذ حتى الآن، فيما نعلم، شكلاً هيكليا، وإدارياً، وعملياً، وتنفيذياً، وبأطُر مضبوطةٍ تكون كالأسوار التي تشكل الحماية والحدودَ للمبنى الإداري للمجلس، وبأبواب تنفتح بضبط وانتظام، فحصل هذا الذي شكى منه الدكتورُ صلاح الردادي في التداخلات الكثيرة بين المجالس البلدية والإدارات التنفيذية للأمانات.. ولا داعٍي لنتحدث أكثر في الموضوع، فقد كانت أحداث ما يجري في هذه الإشكالية بالذات على كل لسان.
 
ثم تنبع أسئلة: السؤالُ الأول: هل المجالس البلدية تجربة فاشلة؟ غير صحيح، ليست هناك تجربة في كل الدنيا تعد فاشلة متى كانت لأول مرة، بل الفشل هنا ثمنٌ ندفعه من أجل النجاح في المرات المقبلة، التجربة الفاشلة الأولى هي التي تقول لك في المستقبل لا تسلك هذا الطريق، فقد كنا هناك ورجعنا منه بلا فائدة، فاشتق سُبُلا أخرى.
 
إذن هي تجربة عرفنا فيها مكامن الفشل.. ومتى اعترفنا بهذه الأخطاء وأقررنا بها فهي بإذن الله الطريق نحو استكمال الأغراض المُشرقة التي يجب أن تهدف لها المجالسُ البلدية، وهي رفع الخدمات، والارتقاء بالمدن والحواضر والقرى.
 
وسؤالٌ آخر: هل أنجزت المجالسُ شيئا أم لم تنجز؟ وهنا أمرٌ دقيق، فقد ساحت الأمورُ فلم يُنجَز شيء، بينما كان من الأفضل أن يركز على مشروع لا يختلف عليه أحد ويُنجز بالكامل مهما كان صغيراً ليُثبَت للناس أن فريقَ العمل بالمجلس قادرٌ على الإنجاز، وإتمام مشروع، ومن يُنجز الصغيرَ سينجز الكبير. لو فكر أعضاءُ مجلسٍ بلدي فيما ينقص مدينتهم ليميزها وأقاموه (مثل متحف ولو متوسط الحجم، أو مكتبة عامة جيدة التنظيم..) لكان متنفسا لهم وللمجتمع بأنهم تركوا شيئا ملموساً وراءهم، مما يعطي آمالا أكبر على من سيأتي بعدهم.
 
وسؤالٌ آخر: طلب المداخلون الإعلام بعدم اللجوء للإثارة، هل هذا ممكن؟ نقولها وبوضوح وواقعية لا يمكن أن نمنع الإثارة من الإعلام التجاري حتى لو أردنا، فهو قائم على ذلك كواحد من أعمدة البقاء والنمو، ويجب أن تكون الإثارة في الخبر الصحيح أو من الخبر الصحيح، وليست الإثارة القائمة على الشائعة فهنا كذبٌ وبهتانٌ ولا يسمى إثارة.
 
ثم إن الإعلام مرآة - نعم قد تكون مضخـِّمة - لوجه العمل، فعندما لا يكون وجه العمل وسيماً، فلا نتوقع أن الإعلام سيضيف عليه رتوشَ الجمال. الحلّ الواقعي أن يترقى العملُ فيرقى تغطية العمل إعلاميا. .. والآن، الأمرُ مرهونٌ بتوفيق الله.. ثم الاستفادة من التجربة. فالاستفادة منها هي التي ستحدد الفشلَ من النجاح.