في وداع وهيب..

سنة النشر : 13/03/2009 الصحيفة : الاقتصادية


لن تظهر المقتطفاتُ اليوم فهي في حداد.

وهيب بن زقر، جاءني نعيُه باكِراً صبيحة يوم الأربعاء.. فلم يعُدْ لليوم صباح.

وهيب ذهب إلى حيث تذهبُ الإنسانية، من خُلِقَتْ، إلى عوالم الخلود، ونطلب من الله أن يُسكنه الفراديسَ التي وعدَ بها عبادَه المؤمنين.. كان وهيبٌ مؤمناً، وكان نقي القلبِ، وكان يحبُّ الناسَ، فأحبَّهُ الناسَ.. ولم يذقْ يوماً بلا غصّةِ ألم، أو صرخةِ إرهاقٍ، أو ردّة احتجاجٍ من أجل واقعٍ أفضل، لأفضل أرضٍ أحبّها.. وطنه.

وهيب، صديقي الذي خذَلـْتُه في آخر أيامِه.. لقد حثـّني أخوه وحبيبه محمد أن أُسرِعَ بالمجيء إلى جدّة لأنه، كما قال: "يحب أن يلقاك، ويلقى أحبّتـَه.. أم تريده أن يهاتفك بنفسِه" فارتعتُ وطلبت من السيد محمد ألا يفعل، فقد كان أبو عبيد يهاتفني من جدة ومن البرازيل، وكان الصوتُ يأتي مُنهَكا، متكسِّراً، ممصوصاً، ويُصر على الضحكِ، ويصرّ على أن يحرِّصَ على مبادئي، ولم تكن لي مبادئٌ سوى التي علـَّمني إياها. أنا من أحبَّـتِهِ، يا للشرف السنّي. ولم أذهب، مع حرصٍ داخليٍّ على الذهاب، أو ربما لأنوِّمَ ضميري حتى لا يقلقني بالعتاب، فمات ولم أرَه.. وسأبقى أراهُ في قلبي، وفي روحي، وفي مناداةِ وجودي، وسأظل أدعو للهِ دعاءَ العبدِ الضعيفِ الخاطئ، المتلمس للرحمةِ وللعفو عند عتباتِ مملكةِ جبارٍ رحيم.

وهيب، لا أدري كيف تعمقـَّت العلاقة فجأة. طول عمري وأنا أسمع عن بيت بن زقر، اسمٌ يعرفه القاصي والداني، وعرفته بأزمانٍ قبل أن يعرفني، وأنا في الجامعة، بمؤتمرٍ للتسويق أقيم في البحرين تلك الأيام، وكان نجمُه الأول.. فقام يشرح عن التسويق بلغةٍ لم نعهدها، وبروح مرحةٍ، وبلمحاتٍ عبقرية، منذ ذاك الوقت العميق تعلقت بعقليته، وتولـَّعتُ بعلم التسويق، لم أتخصّص فيه، ولكني بفضل الله ثم بفضل عبقرية وهيب، أزعم أني قرأتُ في كتب التسويق ما لم يقرأه طالبٌ عادي في التخصص، وما زلت. ثم رأيته وأنا في الممرِّ بعد محاضرته يجادل مجموعة من الإنجليز حول عزوفه عن توسعة تجارته في البحرين، وكلها مبرراتٌ أخلاقية ووطنية.. وبإنجليزيةٍ بعمق لجة قناة المانش.. ورحت أسترقُ السمعَ، أهيم في تجاوباتٍ سيمفونية هادرة. مارستُ عيبَ التلصُّصِ،لا لأسترق الأفكارَ التي لم أشبع منها على المنصة فحسب، ولا لمسح عينـَي على الوجه الحليق الأسمرِ المشدود، ولكن حتى لسرقةِ صوتِه، أحببتُ نغماتِ صوتِه، واللهجةُ الحجازية ترقرق موسيقاها. مضيتُ ومضى، ولم يكن يخال لي أن ألتقي الرجل من كثبٍ مرة أخرى.. بلـْه أن نتعارفَ، فمن هو، ومن أنا!

على أن للهِ شؤونٌا في تسخيره لمصائرِ الناس بنقاطِ التقاطع ورسائل الالتقاء. تزاملنا في "الاقتصادية"، وصار يهاتفني ويشجعني أن أعزّز بعض وجهاتِ النظر الاقتصاديةِ الوطنية التي أناقشها على استحياء.. وفوجئتُ أن خصّص مقالا، بالغ فيه لإظهاري من جحري الغائر، ليأخذ بيدي إلى فسيح الرؤى. وخذلته مرة أخرى.. قال لي مرة: "شغِّل عقلـَك يا نجيب، شغل عقلك، فلقد بدأتَ أخيراً تكتب فقط ما يمليه قلبك."، وقال لي جملةَ لم يرضَ أن يشرحها لي، وكنت ألاحقه بها حتى مرضَ فتوقفتُ:" يا نجيب صرتَ إنسانيـّاً، وكان يجب أن تكون إنساناً". مردفاً بحجازيته المرصّعة "بعدين أفهمَّك المغزى".. فماتَ المغزي يوم مات صاحبُ المغزى.

في آخر مرةٍ كلمني فيها بصوتٍ يحتاج إلى ملقط سماعي لكي تفرز حروفـَه، والمعنى يصرخ لأعماق الضمير بعد أن استرجيته ومن معه أن يتوقف، لأن الكلامَ يرهقني لأنه يرهقه، وحفظتُ جملة لم أنسها، قال: "يجب أن ننتصر، عارف كيف؟ أن نخطو خطوة واحدة أمام الواقع، واقعنا.. "وعرفت هذه المرة المغزى، فالذي لا يخطو خطوة فوق الواقع يأسرُه الواقعُ، ولكن من يمشي خطوة أمام الواقع فإنه يرسم طريقاً جديداً متحرِّراً من قيد الواقع لتمشي عليه فيما بعد الأجيالُ المقبلة. وأردفَ: " عارف إيش نحتاج عشان نمشي الخطوة هذي؟" وسألته:"ماذا يا أستاذي؟" قال:".. نحتاج الإيمان، الإيمانُ أننا قادرون على وضع هذه الخطوة.. فاللهُ يساعدنا كلما تعمّق إيمانُنا.." آخرُ كلمةٍ سمعتها من وهيب هي .. الإيمان.

تعلمتُ من وهيب أن الكونَ رحبٌ بلا حدودٍ ولا تخوم.. وأن العقلَ كونٌ لا حدودَ لهُ ولا تخوم. كان العقلُ هو دليلُ وهيب، وسببُ قوة إيمانِهِ في كل شيءٍ للمستقبل، حتى وهو ينازع اللحظاتِ الأخيرة.

وهيب ذهب إلى ملكوتِ الله حيث العدل الأقصى، والخير الأصفى، ويُعرف من هو الأسعدُ ومن الأشقى، ونتضرع للمولى أن يكون حبيبَنا وهيب رحل خالياً صافياً بعد رحلة عذابٍ أرضيةٍ طُهِّرت فيها، بإذنه تعالى، الذنوبُ وراء الذنوب.

وتبقى سيرةُ الرجلِ الكبير حيّةً لجيل اليوم وأجيال الغد.. فهلـِّموا يا شبيبة واقرأوا قصةَ رجلٍ أحبّ لكم حاضراً أجمل ومستقبلاً أرحب.. رجلٌ ودّعَنا الوداع الأخير اسمه: "وهيب بن سعيد بن زقر".

اللهمَّ ارحمنا جميعا أحياءً وأمواتا.. يا ربَّ العالمين.