ابن معمَّر، هل رفع العلمَ الأبيض؟ (2-2)
سنة النشر : 05/01/2009
الصحيفة : الاقتصادية
كنا نتحدث عن استضافةِ منتدى "أمطار" لمعالي الأستاذ "فيصل بن معمر"، والذي تحول إلى مهرجان عصفٍ فكري كما عقّبَ على مداخلات الحاضرين.. وقلنا إنه طلب في بداية حديثه ألا يثقله الحاضرون بما يصعب عليه إجابته، وكتبتُ في مقال السبت الماضي أني خفتُ أنّ الرجلَ يرفع العلمَ الأبيض قبل بدء المعركة.. وكان قد أدار الندوة باقتدارٍ الدكتور "فهد بن علي العليان"، المدير التنفيذي لبرنامج خدمات المجتمع في بنك الجزيرة.
ثم إنّ المعركةَ احتدمَتْ.. وقبل أن أخوضَ في النقاش الذي دار، أشير بفخرٍ ومحبة إلى ظهورٍ خاصٍّ لشابٍّ طالما أحببتًه وأعجبتُ به، وفخرتً به أيما فخر، كما فعل كل من عرفه من الشعب السعودي، وغير السعودي، وهو المخترع الشابُ "مهند بو دية"، الذي أصرّ على الحضور تأييداً لمحبةٍ خاصة للأستاذ فيصل بن معمر، وإكراماً لنا، وتعرفون أن "مهندا" فقد بصرَه، وساقـَه في حادثٍ أليم.. ولكنه تغلب على كل التوقعات - حتى أكثرها تفاؤلا- وخرج قوياً مؤمناً، وتضاعف عملـُه وإنتاجُه، حتى أنه الآن يدير برنامجا متقدِّما عن الحلول الإبداعيةِ يحضره كثيرٌ من المتدربين وأغلبهم من المهندسين.. وكان أمراً محرِّكاً للعاطفةِ أن يفاجئنا الأستاذا بن معمر، وهو وسط حديثه، فيزيح الطاولة والميكروفون، ويقوم إلى وسط الصالة معترضاً مهندا، ومحيياً إياه على الحضور، وكرس الرجلُ النبيلُ معنيَيْن: تقديرُه لشابٍ مبدع ومنجز، وتصرفه العفوي كصاحب المناسبة وليس ضيفها.. وكذلك كان إكبار الجميع لمهند.. لن يسع المقامُ للأسف لذكر جميع المداخلات وهي كلها بلا تفرقةٍ مهمةٍ وثرية بالمقترحات، ولكني أحاول استعراض معظمها.. بدأ أستاذنا حمد القاضي بلطافته وبلاغته المعروفتـَيْن، مبديا تصورَه بأن معظم الحوارات الكبرى بالأمة إنما انطلقت من مركز الحوار الوطني، ومنها حوار الأديان العالمي، ونبّه إلى أثر بعض الفضائيات في إثارة التعصبَيْن الديني والقبلي.
والرجل الجليلُ راعي ندوية البابطين، ذكـّر الأستاذَ ابن معمّر بالتوصيات التي خرج بها مجتمعو مؤتمرِ مكة عن الصالونات الأدبية، في حق النشر واللقاء السنوي.. متحدثاً نيابة عن آمال أصحاب المنتديات والصالونات.. وأكد ابن معمّر اهتمامَه بالموضوع، كما نبّه إلى أنه المركزَ منسق وواضع توصيات، وأنه ليس جهة تنفيذية لتلك التوصيات.. وهنا، تعرف الآن لماذا قال ابن معمر من البداية ألا يُثقل بما هو غير قادر عليه، ليس لتردده في خوض معمعات النقاش، ولكن ليعرف الجميعُ طبيعة آلية عمل المركز الخدَمية، وأنها تحمل التوصيات وتوصلها كأفضل ما يعمل الرسُلُ حاملو الرسائل، ولكنهم ليسوا المخوَّلين بتنفيذ قرارات التوصيات، ومع ذلك خاض ابن معمّر كل المعركة رغم تعدي التخوم التي أراد التنبيه إليها.. ثم تحدث بصوت يحمل طبيعة متفجرة بإيصال التعبير والمعاني الشيخ الفيلسوف "إبراهيم البليهي"، مصرحا بأننا مجتمع لا يعرف ولا يؤمن بالحوار، وحذّر بن معمر من التفاؤل، وأنه ما زال في أول درجةٍ من سلم عال وطويل، وأننا مجتمع مشافهة وليس مجتمعا من القارئين، مؤكدا دور الصورة في التطبيع الذهني بمجتمعنا.. ثم يمضي مؤكدا: "أنكم لم تحدثوا حتى ثقبا صغيرا في هذه الحصون المتجمدة في وعينا المجتمعي..".
ولم ترتفع نبرة السيد ابن معمر ولا درجة في مقياس الصوت، فهدوؤه ربما كان أكبر استراتيجيات خوضه معارك الحوار، وامتص في حوار دائر ارتفاع وتيرة الاحتدام التي شاعت في الجو.. والدكتور إسماعيل البشري مدير جامعة الشارقة أتحفنا برأي وفصاحة بأن المهارة أهم من الثقافة.. مجريا طرفة استدلالية عن مفكر تباهى على بحار عادي بثقافته وأن البحار فاتته الثقافة، وهي أهم ما في الحياة، ولما بدأ القاربُ يغرق سأل البحارُ المثقف إن كان يعرف السباحة، فلمّا نفى المفكرُ، أجابه البحارُ: إذن فاتتك كل الحياة! أي أننا قد نملك المعرفة في هذا البلد ولكننا لا نملك مهارة الحوار.. وبدا أكثر تفاؤلا بالمستقبل بوجود المركز، ودعا إلى قناة فضائية للمركز.. وهذا ما أكدته كبرى الصحف السعودية فيما بعد نسبة إلى ابن معمر.
وتحدث بتمكن كل من السادة سهم الدعجاني وهو أسهم كما عرفنا كثيرا مع المركز، والدكتور خليل الخليل برصانته وتوازن رأيه، وحذر الدكتور عدنان الشيحة من وضع السلم على الجدار الخطأ، مشيرا إلى نوعية اختيار مواضيع الحوار، والدكتور الأسمري القاطع اللسان عبر أن الحوارَ ما زال "حوارا"، ولم يكتمل "بعيرا" يُشـَدُّ عليه الشدادُ.. بتمويهٍ واضح، مستخدما جناسَ الأسماء في تورية الحوار، وهو صغير الإبل.. ولم يعتذر عن خصومةٍ نقاشية تدور معه ومع ابن معمر، وإن أكد ابن معمّر أن الأسمري صار من أعز الأصدقاء بعد خصومةٍ حوارية.. وهذا هو الهدوءُ الفولاذي الذي يتدرّع به ابن معمر فيحيمه في حومة الصولات.. ولم يعد يكفي المكان.