ابن معمَّر، هل رفع العلمَ الأبيض؟ (1-2)
سنة النشر : 03/01/2009
الصحيفة : الاقتصادية
.. نرجو أن يكون "أمطار" قد حقق موقعاً في وسط المنتديات الفعّالة في البلاد، و"أمطار" هو منتدانا في العاصمة، الذي تـُقام به فعالياتٌ يوقِد شعلتـُها شخصياتٌ نابهة خدمتْ البلادَ والعباد، أو ما زالت تخدمهما.
ولما رأيتُ أن جريدتـَيّ العاصمة الكبيرتين "الرياض" و"الجزيرة" في عدَديهما الصادرين يوم الخميس بتاريخ الأول من يناير 2009، قد وضعا خبرَ بعض ما قاله معالي الأستاذ الصديق "فيصل بن عبد الرحمن بن معمر"، أمين عام مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، في الصفحة الأولى.. وذكرا أن التصريحَ أُعلِن في منتدى "أمطار"، وكأن "أمطار" صارت اسماً يدور في كل بيتٍ، ويعرفه كل قارئ، أدركتُ معنى أن تسبقك أعمالـُك فتكبر أكبر منك عندما يكون القصدُ أكبر منك ومن مصالحك القريبة.. وجاء هذا ليذكرنا بحجم الواجب المُلقى علينا في توجيه دفـّة "أمطار" نحو الطريق الذي هو سائر به، وتعزيز مساره كوسيطٍ خادم لمنجزاتِ البلادِ وللمنجزين بدون الانحراف في مضائق وانعطافاتٍ تـُخـَبـِّطُ مؤشـّرَ البوصلة، فيتوه به، وبنا، الطريقُ.
وأول ما بدأ الأستاذ "بن معمر" حديثـَه بدأ به برأي لا أوافقه عليه، ولا أفهمه منطقا، وإن كان ما قاله يعتبرُ في خانة ما يتواضع به الناسُ ويتداورون به حياءً من التنويه الشخصي.. إلا أنه يبقى غير صحيح البتة. ولم أناقشه فيه، ويشجعني أن أعلنه هنا ما لمسته من تجربةٍ محترفةٍ لديه في الحوار، وتقبل الرأيَ مهما أوغل في الاعتراض، مع سماحةٍ رزينةٍ مجبولةٍ عليها شخصيته وبناؤه السلوكي.
فقد قال "بن معمر" إن المهمة هي منصبٌ أو عمل وليست شخصانية، أي لا تتعلق بالشخص.. وهذا غير صحيح، وإلاّ لما كافأنا المُجـِدَّ، ولما عاقبنا المسيء.. إن المسألة شخصانية في الوظيفة، وستبقى كذلك إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ووظائفـَها وموظفيها.. قيل "إن المنصبَ هو الرجل"، وهذه أصدق جملة قيلت في الإدارة، وبالذات في الإدارة العامة، أي تلك التي تتعلق بخدمةِ الشعب العريض، أو إن شئت الخدمة الرسمية في الجهاز الحكومي، فالمنصبُ أو الوظيفة يبقيان أمرين جامدين، والجامدُ لا يُحمد ولا يُلام.. ولا يقاس به الأداءُ، ولا تـُفـَعـَّل به الأمورُ، إن المنصبَ يحتاج إلى إنسان لكي يفعّله. الوظيفةُ عربةٌ جامدةٌ، مهما ارتفع ثمنـُها أو رخص، مهما شاعت أو ندرت، مهما علـَت أو نزلت، ويبقى المعوَّلُ عليه الأولُ والأخير هو السائق، ومنه تنبع طريقة السياقة، لذا فإن جنديَّ المرورِ عندما تقع المخالفةُ يخالِف سائقَ العربة، وليس العربة، المسألة بين الشرطي وبين السائق مسألة شخصانية بحتة، لأن هذه هي الحقيقة الواقعية والمنطقية والممكنة.
تبقى وظيفة "الأمين العام" لمركز الحوار الوطني وظيفة جامدة، بأهدافٍ ومسؤولياتٍ مكتوبةٍ، مثل المواصفات الملحقة بالعربة أو الأجهزة.. إنما المشغـِّل هو الذي يعطيها مداها، ورونقـَها، وقوتها، وتأثيرها، واستخدام كامل طاقاتها.. وقد يأتي مشغلٌ آخر بمهارات أقل، فلا يقرأ المواصفات، وإن قرأها لم يتقنها، وإن أتقنها لم يرغب في السباق بها باستغلال أقصى إمكاناتها.
المسألة إذن شخصانية، بل شخصانية جدا.. ولو أن الوظيفة التي هي تحكم، لما احتجنا لتغيير من يشغلها، أو حتى التدقيق باختياره في الأصل، ولكان كل من يملأها سواء، حتى لو كأن من يملأها كمن يملأ الفراغَ بمثله! إذن نحن نتحدث عن رجل بعينِه، عن شخصيةٍ بذاتِها واسمها، وهي "فيصل بن عبد الرحمن المعمر" ، أوافق أم لم يمنحنا الموافقة، لأنه سيُحاسَبُ من هذا المنطلق، اليوم، وفي الغد، وفي ملفات التاريخ الإداري في المملكة.
ولا ندري كيف تم اختيار هذا الرجل، إلا أنه قريبٌ لصانع القرار الأول في البلاد كمستشار في الديوان الملكي، فعُرِف من كثـَب، أو عن طريق اختيار وقياس للمنصب الجديد على البلاد، لمهمةٍ جديدة، لتقليدٍ جديد، لنقلةٍ جديدة، وكنا نحتاج رجلا بمواصفاتٍ جديدة فعلا.. وأولى هذه المواصفات قبول وجهة الرأي من الضفة الأخرى مهما قست وجفـّت وغضبتْ، وهذه مهارات تصعب في البلدان التي كادت تقدس الحوارَ، فكيف في مجتمع لا يأبَه للحوار، بل في بعض قياساته الاجتماعية يراه من صفاتِ الشخصية الرخوة المتماهنة الضعيفة.. على أي حال، ثبت أن الاختيارَ جاء فائق الدقـّةَ.. وقاد الرجلُ فيصل بن معمر الوظيفة وكأن الحوارَ يُتوارَثُ من أجيال.. ولما قدّم عرضـَه في منتدى أمطار، قال: "لا تثقلوني بما أنا لست قادراً عليه"، ووضعتُ يدي على قلبي، وقلت إن الرجلَ يرفع علـَماً أبيض قبل أن تبدأ المعركة.. ثم رأيت رجالاً جاءوا يشحذون أسنة رماح الرأي مثل فيلسوفنا وأستاذنا "إبراهيم البليهي"، ومثل الدكتور صاحب اللسان البتـّار "محمد الأسمري".. وأوجستُ خيفة.
فلقد جاء الرجلان ومعهما كوكبة كبيرة من رجال الرأي والوجاهة والمنصب والفكر ضاق بهم البهوُ الواسع من أجل أن يحاوروا رجلَ الحوار في المملكة، ثم هو يقول: لا تثقلوني بما لست قادراً عليه.. على أني حذرتُ نفسي ألا تحكم على العناوين بلا حيثيات المواضيع.. إن المعركة التي خاضها ابن معمر في "أمطار" مساء الإثنين الأسبوع الفائت، كانت، كما قال، من أهم ندوات العصف الفكري التي مرّ بها في مهنته. على أنك يا قارئي لم ترَ وقائع تلك المعركة الرائعة بعد.. فإلى يوم الإثنين إذن.