مقتطفات الجمعة 309
سنة النشر : 27/12/2013
الصحيفة : الاقتصادية
أهلاً بكم في "مقتطفات الجمعة" رقم 309 .
ويسألني طالب الماجستير عبد الكريم المحكمي عن طبيعة القوة العلمية الإسلامية والعربية وما قيل عن تهميشهم؟ أحب أن أجيب على هذا قطعا لفلسفات بلا موضوعية، وأرجو أن تنتهي بقوة المعلومات الموردة، وليس برأيي أو برأي غيري، مستغرقا كل المقتطفات.
توسعت الأمة الإسلامية مع الخلفاء الراشدين، وكان توسعا قويا ومفاجئا بالنسبة لمن هم على أمر أمة الإسلام الناشئة، لذا من الطبيعي أن احتاجت الأمة الكبيرة والمتسعة المتباعدة الأصقاع إلى أن تكون دولة ذات نمط. يعني أن يكون لها طابع يجمع صفاتها العامة، وهذه الصفات العامة لا بد أن تخلق بالطبيعة والمنطق نمطاً إسلاميا، ذاك، الذي نشأ وخرج من المدينة المنورة. فكانت الحاجة بفعل تراكم الأفعال المتماثلة والأحداث المتشابهة إلى إيجاد قوانين ودساتير تنظم هذه الأفعال، وتؤطرها ضمن قانون قوي وموضوع سلفا وهو القرآن الكريم، وما نقل عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- هذا استغرق زمن الخلفاء الراشدين وأخذ كثيرا من وقت الأمويين.
صبت جل الجهود لحل تلك المسائل التي تنبع من واقع التوسع والتنميط الذي أشرنا إليه، ورأينا كيف نشطت الجهود في الدولة الأموية لإرساء قواعد العلوم الشرعية، سواء تلك النقلية في تفسير آيات القرآن الكريم أو الخاصة بنقل الأحاديث النبوية، واستدعي ذلك أيضا دراسة وعناية رفيعتين للغة العربية، فظهرت كما تعلم مدرستا الكوفة والبصرة النحويتان، كما ظهر أفذاذ النحاة وأفذاذ الشعراء.
ولكن دعنا نشير إلى شيء لن أعتبره عرضيا، بل في جسم الموضوع الذي نحن بصدده، إن الأمرَ هنا دقيق ولا بد من الانتباه له لأني مضطر للاختصار. فقد كانت هناك خزانات ثرية من العلوم قبل الإسلام وكانت وقتها داخل الجدار الإسلامي نفسه في إمبراطورية الإسلام التي انتشرت في الأرض. قبل ظهور الإسلام، كانت علوم ومؤلفات المدرسة الإسكندرية، وهم القوم المتحضرون الذين نزلوا من آسيا الوسطى ''تركيا الحالية'' ضمن دولة الإغريق، واستقروا في مدينة الإسكندرية، وظهرت المعرفة العلمية التطبيقية (فأكثر البحوث والدراسات كانت في علوم الرياضة والفيزياء والتصاميم المعمارية والحركية) في مدرسة الإسكندرية، ومنهم فيثاغورس الأشهر، وبطليموس، وغيرهم من الرواد الكبار. كانت الإسكندرية نقطة التقاء تيارات ثقافية يونانية ويهودية وبابلية ومصرية، والإسكندرية صارت من عهد عمرو بن العاص مصرية- أي داخل القلعة الإسلامية- ثم إن تلك العلوم تُرجمت للسريانية ونقلت إلى مدينة أنطاكية ــــ في تركيا الحالية ــــ وهي أيضا كانت من ضمن القلعة العربية الممتدة شمال سورية. إذن فلنتفق هنا أن العلوم الكبرى كانت في خزانة تركها علماء أوائل داخل قلب أمّة الإسلام.. ثم سنرى بسرعة ما حصل في المقتطف القادم.
حدث وضعٌ أثر كبيرا في الحضارة الإسلامية فيما بعد، وذلك بسبب انشقاق كبير بين الكنائس المسيحية ما زالت آثار عمق صدوعها تعانيها الديانة المسيحية حتى الآن. هذا الانقسام كي لا أدخل في التفاصيل فصل النسطوريين عن اليعاقبة وعن جماعة الأرثوذكس الناطقين باليونانية. جماعة النسطوريين واليعاقبة كي يؤكدوا فراقا نهائيا عن الأرثذوكس، اعتمدوا اللغة السريانية كلغة كنسية، وإلى عهدٍ قريبٍ في كنائس في لبنان وسورية كان إنشاد الترانيم في الكنائس باللغة السريانية. طيب، هنا قد تتعجب.. من شجّع تلك الكنائس النسطورية واليعاقبة ــــ ولنسمها الكنائس الشرقية ــــ هل تعرف؟ الذي شجعهم وأقام محافلهم وحفظ لهم مكتباتهم المنقولة هم الأكاسرة أي الحكام الفرس آنذاك. والسبب أن الدولة الفارسية كان أعداؤها البيزنطيين الذين حموا كنائس الأرثذوكس، أيضا بمكتباتهم وعلومهم.
لا أود أن أستغرق، ولكن شيء مهم آخر؛ الهنود ساهموا في نشر علومهم الفلكية التي حللت بعلم ومنطقة مدرسة الإسكندرية المنقولة عند الفرس، فظهر نبوغ الساسانيين بمساعدة علماء الهند ووضعوا نظاما فلكيا شهيرا باسم ''زيج شهرياري''.
كان الحكام المسلمون وبالذات في أول الدولة العباسية قد تمكنوا من الأمة المترامية، ثم احتكوا بعلماء يونان وهنود ويهود وظهر منطق انتبهت له الطبقة الحاكمة، وهنا لمعت الفكرة الكبرى، في مجتمع عبقري في دمج العناصر الإنسانية ــــ تماما كما صار في الولايات المتحدة ــــ وبالذات العقلية المتقدمة. وحيث إن المجتمع العربي الإسلامي كان مهيأ بعبقرية لمد الأمة الإسلامية بأسلحة عقلية ــــ وهذا ما يدعو له الإسلام بتعاليم صريحة ــــ تطورت عقلية مكينة انتهت عند المأمون ــــ رغم حروب منطقية مؤسفة ــــ بأن العلوم العقلية ستمكّن للإسلام وللمسلمين، فكان سهلا انتقال العلوم من الجهتين أي من جهة الهند وفارس وبيزنطة، وكلها صارت ضمن الطَوْل الإسلامي، وكما أسلفت خزائن علْمٍ في قلبها.. سال النهرُ العلمي سهلا في قلب العاصمة الإسلامية بغداد ثم انتشر، وطبعا العاصمة المتحضرة والمضيئة جاءها العلماء المسلمون من كل أصقاعها لينشروا علومهم وأبحاثهم. ثم بزغ أيضا علماء عرب كثيرون مثل ''ابن الهيثم'' الذي يتفق الغرب على أنه أكبر عقلية علمية تاريخية مع إسحق نيوتن.
أرجو أن أكون قد شرحت وبعدل وحقيقة كافية كيف أن أمة العرب المسلمين كان وجودها أساسيا لوصول العلم لما هو عليه الآن، وبدونه - كما قال علماء غرب في دراسات في أكبر الجامعات - إنه لم يكن للإنسانية أن تصل إلى ما وصلت إليه، لولا العبقرية العربية احتواءً وعلما.