مقتطفات الجمعة 288

سنة النشر : 08/03/2013 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلاً بكم في "مقتطفات الجمعة" رقم 288 .
 
حافز الجمعة: كل شيء يغير أي شيء، لا تستهن بأثر الصغير على التغيير الكبير، فالنظرية الفيزيائية المناخية تقول إن رفّة جناح فراشة في الأمازون ستغير شيئا في الجو للأبد، وتتحول إلى إعصارٍ في الكاريبي!
 
تأمُّل الجمعة: إن استغرقت في التأمل الكوني مشبعا بروح التطلع الداخلية للخارج، كأنك تُخرج من مكانك الخاص منظارا عبر النافذة لتتأمل العالمَ والسماء وأجرام السماء، ستجد نفسَك طافيا في فراغٍ كبير؛ في حالةٍ لا شيئيةٍ لا توصف لأن لا شكل لها قابلا للوصف. حالةٌ لا شيئية، ولكنها في المقام ذاته كل شيء، عندما ينحبسُ نفَسُكَ، وتشعر أنك في حالة بركةٍ ووضوح ورضا. لحظة لك أنت وحدك، تنغمر ذاتك تماما وتغيب، وتشتد بصيرتك وتظهر، فترى أعمق ما في جمال طيف الظلام، وأسطع ما في طبقات النور، تشعر أنكَ عُزِّزْتَ بطاقات الإيمان في أقصى تركيزها، وأن الأشياءَ في تناقضاتها الظاهرة متكاتفة في الداخل، لتجعل كل عنصر في الكون في مكانه الصحيح لتحقيق بقاء النظام الكوني العظيم .. وأن حجَرةً صغيرة ترميها في الماء ستحرك أمواجاً تليها أمواجُ تصل لكل الضِّفاف، وأن جناحَ فراشة ضئيلة سيقلبُ المحيط البعيد. وتفهم بانكشافٍ عِلْوي كيف يعمل الإيمانُ والعلمُ .. باتحاد.
 
كتاب الجمعة: طالما كنت أحلم وأقول إن القصة العربية تحتاج إلى التعزيزَ العلمي المتخصص، وإن جاذبية القصص الغربية أنك تجد متخصصا في الطب يكتب قصة فيها الواقع والعلم الطبي، فتكون الفائدة مضاعفة متعة ومعلومات. وما يكتبه مؤلفو قصص التحري والجريمة والشرطة هم مختصون جنائيون، أو عارفون بدخائل الكيمياء، كما في قصص أجاثا كريستي مع علم النفس وعلم الآثار، وكما في قصص شارلوك هولمز بأسرار الطب والتحليل الفيزيائي والفهم الكيميائي.
 
وتأتي قصة محلية مختلفة، تماما كما حلمتُ وربما أكثر. هنا تفوقت القصة العربية على نفسها بفضل موهبة مفاجأة وغامضة ومبهرة للكاتبة الدكتورة هناء حجازي .. أخبرتني الدكتورة أين أحصل على الكتاب في معرض الكتاب، وتصفحته قبل أن أنام، ولم أنم إلا وقد أنهيته، أمسكني الكتابُ من خناق المتعة والفضول والغموض والواقع، وبطلا القصة طافيان في صفحاتها بلا إلحاح، بل القارئ سيتوقع الحضور قبل حضورهما، وكأن الكاتبة مرّنت قارئها على التوقع والشعور بدون أن يرى أو يعرف أو يقرأ .. قصة واقعية تقرأها فتجد أن مشاعرك لاواقعية، وهذا ما ستقوله لك الكاتبة وهي تتكلم عن طفلها يوسف الذي يعاني الأسبرجر، وهي حالة توحدية لا يرى فيها المصاب إلا الحقيقة عارية ولا يقولها إلا حقيقة عارية ولا يفهمها إلا حقيقة عارية بلا غطاء شخصاني ولا سلوكي ولا ذوقي مع مصاحبات أخرى. "السبرجر" مراوغ، من يعانيه يبدو أحيانا كعبقري فذ، وأحيانا كتائهٍ عن الواقع بامتياز، لا يناقش بل هو يؤمن قطعا، لا يختار بل هو يحب ويتبنى ولا يغير. إن الكاتبة تحكي لك أنها لا تكتب قصة عاطفية، فعقلانيتها ومرونتها العملية لا تجعلها منكسرة الشعور حتى لكونها أمًّا.. لكنها تبكيك، وأنت لا تدري ما الذي جعلك تبكي فليس في عباراتها ما يبكي، وكأنها وفتْ وعدَها بعدم الإغراق العاطفي، وأنت المذنب لأنك خرقت الاتفاقَ وبكيت، ولا سبيل لك إلا الاعتراف.
 
أسلوبُ "هناء حجازي" متسارع السلاسة بنكهةٍ عالمية فعلا، تشعر وكأن الكتابَ مترجم .. عقلية هناء لم أرَ عقلية مثلها، عقلية بحال انفرادي، ليس لأنها الأذكي فلم أقل أنا، ولم تدّعِ هي.. ولكنه عقلٌ آلاته وتروسه وزوايا ظلاله تعمل بطريقة النواة الصغيرة أصغر بناء بالكون، بفوضى .. فوضى تخلق إبداعا. لذا تبكيك وهي تحذرك بكل صفحة من البكاء، كل ما في الأمر أن عقلها الغريب ربما يحركه جناحُ فراشة يخفق داخل قلبها. لا أملك تفسيراً آخر!
 
مقالة الجمعة: مقالٌ ظهر بجريدة "الشرق" للكاتب عبد الحميد العمري بعنوان "الصمت .. صديقٌ لا يخون أبداً" يقول فيه: "يتحدّثُ المرءُ ويكتبُ شعوراً منه بمسؤوليته الكاملة تجاه ما حوله، بغضِّ النظرِ عن صواب أو خطأ ما خطَّته يداه، أو صرّح به لسانُه، فهو في أوّل الأمر وآخره لا يعدو كونه مجرد مجتهد .. وجُلُّ ما يسعى إليه أن تسير الأمور إنْ اعتراها انحرافٌ عن هدفها القويم لتعود لغايتها السامية .. أنْ تفتح عينيك كل صباحٍ على أمرٍ ما، لتجد أنّه زاد اعوجاجاً عن صباح أمس، ويتأكّد لديك أن صباح الغد ستراه ماضيا لاعوجاجٍ أكبر، رغم أنّك ما فتئت تجاهد من أجل إصلاحه ما استطعتْ؛ فهذا مؤدّاهُ أن هذا الاعوجاج أكثر مناعةً من حجّتك وبلاغتك .. فأرحْ قلبَك، وأغمض عينيك، فإنَّ لله حكمةً أعلى وأوسع من أن تدركها، وأنَّ الصمتَ جديرٌ بأن تكون صديقه، ويكون صديقك!".
 
مقال نُضِّدَ بجمال العاطفة الحزينة، وألَق الكلمات المودِّعة. على أني لن أرضى أن أقتنع بأن الجمال والتأثير يعطي الحقيقة، أذكرك صديقي الحبيب الذي تأكله استقامة وطنيته بأن الفراشة حين خفقت بجناحها ليكون في النهاية الإعصار العظيم، لم ترَ شيئا، ولو سألتها لأجابت بأن رفّات جُنَيْحاتها لا تحرك غُبارة، وهي صادقة لكن العين الكبرى سترى التأثير الكبير من الرّفات الصغرى. أنت تلقى بكل مقال حجرا صغيرا لا ترى إلا أثرَ رشقات الموج الصغير، ولكنها في النهاية تحدث التغيير الكبير الدائم. فلا تبتأس يا صديقي، ولتعلم أنك غيّرت، شئتَ أم أبيتَ، هي ظاهرة كونية علمية فيزيائية تحملها إرادةٌ إلهية لن تغيرها أنت ولا أنا. أنت بدأت عملا، والحزن الحقيقي أستاذنا عبد الحميد هو التوقف عن متابعة ما عملت!
 
في أمان الله