مقتطفات الجمعة 200

سنة النشر : 12/11/2010 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 200 .
 
حافز الجمعة: كلٌ إلى مآل.. لا نظرية على الأرض تثبت الثبات! سقطت الأممية الشيوعية بعد أن صارت عند أهلها دينا صارما، وهم يقولون الدين أفيون الشعوب، وكان سقوطها هلاكا. جاءت الأزمة المالية الأخيرة لتوجه الضربة القاضية لطوباوية ''آدم سميث'' في الرأسمالية المطلقة التي تتحكم ولا يُتحَكـَّمُ بها، وجاءت الحماية والتدخل الحكومي وهما أقسى عدوين للنظرية الرأسمالية. وانتهى القرنُ الأمريكي أمامنا وظننا أمريكا جبروتا ينتهي مع نهاية العالم، لينفث التنينُ الصيني ناره من الأفق الشرقي البعيد. كلٌ إلى زوال.. وتبقى حقيقة الأزل: الثباتُ الأبديُّ رسالةٌ تأتي من السماء.
 
شخصية الأسبوع: لم يطفُ على كل بحر الأسبوع الماضي إلا سفينة قبطان خاض كل البحار. قبطان مثل السندباد ساحر الأساطير الذي جال البحارَ السبعة وصارع فيها وحوش وغيلان البراري والبحار. كان ''محمد عبده يماني'' يرحمه الله، متفردا من نسيج وحده.. كان عالما متخصصا، وكان وزيراً جعل وزارته أصغر منه، وكان أكاديميا متموها بإهابات المعلمين الأقطاب. التقيت به لأول مرة في القاهرة في ردهة فندق، جالساً وحيدا، واستأذنت أخي لأجالس الرجلَ الكبير.. كنت لتوي قد بدأت أكتب، ولتوي كان اسمي ينفض ترابَ المغمورين. ذهبت، وأول ما فاجأني وجهٌ كاملُ الإضاءةِ وكأنه من رسومات رفائيللو للحواريين.. ولما أردت أن أقدم نفسي بادرني قائلا: أعجبني مقالك في ''الشرق الأوسط'' عن قصة البروفسور المغترب البنجالي في بوسطن. تعجبت، وحرتُ.. وتقريبا شللت.
 
جلسنا، وتحادثنا، ثم قال لي فجأة: ''أنا عندي موعد..'' ولما هممتُ بالاستئذان، أمسك بيدي وقال: ''كنت أريد أن أقول أني أريد إرجاء الموعد لإكمال الحديث معك''.. ولو قالوا في تلك اللحظة أن قوانين ''نيوتن'' في الجاذبية محض كذبٍ وادعاء لصدقت في الحال، شالتني حالةُ طفوٍ طيراني. تكلمنا في النفط، وطبقات الأرض، ونشأة الكون، وصوفية السالكين، وحب النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي الأركيولوجيا، وفي القدر، وفي مفكري الإنسانية.. وكدت معه أتصوّف روحاً في الرحاب الإشراقية. واستمرت علاقة متقطعة، ولكن قوية، حتى قدمته في محفل بالمنطقة الشرقية، وكانت معاه عصاه الشهيرة، وقلت له مازحا: ''عصاي أتوكأ عليها''، ورد متطلعا إلى فوق: ''يا حبيبي لن نتوكأ إلا على أعمالنا في يوم الحساب''!
 
أخويةٌ بدأت من ''نيوكاسل'' تسمي نفسها ''جمعية القديسات الإلهيات..'' تواصلوا معي، كما تواصلوا مع كثيرين، ورددت عليهم بالاعتذار قائلا: ''لا نؤمن بالقديسات والقديسين''. ولكنها فرصة كي أكتب لكم شيئا كنت أتسنّح الفرصَ لكتابته، منتهجاً الإعجاب بالأسلوب وقوة المحبة الخارقة، وليس بالنهج العقيدي البالغ الانقطاع، عن بعض من المتصوِّفات الكبار، فنحن نكاد لا نعرف إلا المتصوفة العاشقة الإلهية ''رابعة العدوية''، وشيءٌ آخر قد لا نعرفه وهو إيمان المتصوفة بالحضور الروحي والعقلي للمرأة حتى كادوا- أو بعضهم فعل- أن يفضلوها عن الرجل. فشيخ الصوفية الأكبر ''محيي الدين بن عربي'' يقول: ''الحق لا يشاهده الرجلُ إلا في المرأة وهي في أرقى معانيها''. بل إن هذا الصوفي الكبير كما تورد الدكتورة سعاد الحكيم، وهي أستاذة علم التصوف في الجامعة الأمريكية في لبنان، كان يخدم بنفسه امرأةً من المُحـِبـَّاتِ العارفات (أي المتنسكات المنقطعات باصطلاح الصوفية). في أشبيلية، وهي ''بنت المثني القرطبي''، وهذه كتب عنها باحثٌ هولندي، وقد يأتي يوم نتحدث عن قوة حفظها وحضورها العقلي الفائق، وعرفانها الروحي.
 
إشارة: نعتقد أن معظم الفكر والمدراس الصوفية تأتينا من الشمال الإفريقي، وهذا صحيح. ولكن التصوف الموجَّه أدبا وثقافة في لبنان. وأعطيكم مثلا شاهدا هو المفكر الصوفي صاحب الأسلوب الخلاب ''سامي مكارم''، ويظهر ذلك جليا في كتابه: عاشقاتُ الله.
 
هناك كثير من المتنسكات الصوفيات غير ''رابعة العدوية'' مثل ''عفيرة بنت الوليد البصرية''، و''ماجدة القرشية''، و''حيوية''، و''ريحانة''.. وغيرهن. والملفتُ أن لكل واحدة منهن طريقة مختلفة في تبيين المحبّة الإلهية، وينعكس ذلك في طريقة تفكيرية عقلانية لفسح المنظر الروحي نحو الخلاص الإنساني النهائي. وجدتُ التصوف النسائي وطرائقه أكثر عقلانيةٍ، مع غلالته الروحية، من التحليقات الصوفية الرجالية التي غاصت في الخيال اللقائي بغيابٍ عقلي وإدراكي حسي. وهذا منحى لو درسه أحد لنال عليه الشهادات: ''كيف يكون الرجلُ مستهاما بالحق الإلهي، والمرأة، ثم إن المرأة تتفوق في التحليل العقلي''. سؤالٌ لم يجب عليه أحد حتى الآن!
 
نعطي مثلا بِـ''عفيرة بنت الوليد'' ويطلق عليها ''العابدة'' فهي تتجلى لها الآية ''وسع كرسيُّهُ السمواتِ والأرض'' فكريا تحليليا، على نقيض ''ابن عربي'' أو ''السهروَردي'' بتفسيريهما الروحاني الذائب في بحر الوجدان، لا في وعي الأفهام، فهي تفسِّر أن ذلك يعني إحاطته سبحانه في علمه ومراقبته، وإحاطته في محبته. وأن سعة كرسيِّهِ هي سعة ملكوته.
 
''ستيفن هوكنج'' عالم الفيزياء النظرية الأكبر والأشهر الآن في العالم، ويروج البعض أنه ألمعُ عقلا من أينشتاين، قال في كتابه الشهير ''تاريخ موجز للزمن'' أن الخالقَ وهمٌ، وأن هناك التصميم الأعلى Grand Design''. سُئِل أخيرا في باب ''عشرة أسئلة'' في عدد مجلة ''التايم'' 15 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري: ''لو كان الخالقُ ليس موجوداً، لماذا يفرض مفهومُ وجوده على حقائق الكون؟'' أجاب: ''أنا لم أقل أن الخالقَ غير موجود، وأنا أفسّر الخالقَ بأنه قوانين الفيزياء''. هِه، ''صِبّهْ حِقـْنه .. لبن!'' .. ''عفيرة'' العابدة، في هذه الجملة لِـ ''هوكنز''، تفوقت عليه ذكاءً!
 
- عيدكم مبارك، ألقاكم إن شاء الله بعد العيد.