مقتطفات الجمعة 192
سنة النشر : 30/07/2010
الصحيفة : الاقتصادية
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 192 .
حافز الجمعة: الإيمان لا يتطلبُ إثباتا.. وإلا صار حقيقة. ثم لا فضل وجدانيا لك!
أومن أن الواقعَ منفصل عن الحس الاجتماعي البشري، ولا أستطيع إثباته. عقلي يقول لي إن الواقعَ مستمرٌ أزليا، وإنه طريقٌ قديم ولا نهائي في المنظور البشري، ولذا فنحن نأتي ونجده ونمشي عليه بحواسنا بفكرنا بعواطفنا بما نكتشفه ونطوره، ونحن على الطريق، ثم نمضي ونختفي في فترة قصيرة جدا، ويبقى الطريقُ من الأزل إلى الأبد. والواقعُ ليس محيطيا، أي أنه ليس بما نستطيع الإحاطة به، بل هو متعاظمٌ ممتدٌ فوق إدراكاتِ الإنسان الأولى، وفوق كل ما اخترعه عقله من وسائل الكشف العلمي، لذا تبقى معرفتنا بالواقع (العالم الخارجي إن شئتَ، أو الطبيعة) محدودة في ضمن هذه الحتمية البشرية مهما بلغنا وتوسعنا واكتشفنا في المستقبل القريب والبعيد. لذا، لن نعرف الحقيقة النهائية.. أبداً!
أومنُ، ولا أستطيع الإثبات، أن هناك وعياً داخلياً متوارثاً عبر انحدارات الوراثة البشرية في العقل المُضـْمَن بأن هناك حياةً أخرى، وأن تلك الحياة أروع وأبقى، مِمّا يولـِّدُ عنده هذه القيمَ الأخلاقية ومسؤولية الخروج عنها، بعضنا يلتزم بها وبعضنا يخرج عنها، ولكنه يعلم عن سلبية الخروج فيتقبل أو يتجنب عقاباً مستحَقاً.. وأن هذا الوعيَ المُضْمَن المتوارث عبر سلسلةٍ وراثيةٍ هو الذي يجعلُ لوجودنا معنى وحدودا وسببا.
أومنُ أن كل الحقائق أو ما نسميها الحقائق لا يمكن إثباتها نهائيا، ولا أستطيع إثبات ذلك، وأن التغيرَ هو المهيمنُ السائدُ في طبيعة تكوين الواقع برمته، وأن هناك لمسةً في أقل من ثانية وفي أكثر من دهر تغير هذا الكون في تركيباته وفي جزئياته في أحداثه وفي طبيعة وظائفه، وتبقى العناصرُ الأولى من بنية الخلود.
أومنُ، ولا أستطيع الإثباتَ، أن المللَ من التكرار أهم دواعي الاختراع، فألعابُ الجيل السابق مهما أشبعتها تناولا للجيل الذي يأتي سيملّ منها لأنه لم يرها وهي في جـِدِّتـِها الأولى فتتكرر ويمَلّ، وعندما يملُّ يفقد أهم عوامل اللعِب وهي المُتعة، وأومن أن المتعة والبحث عنها من غرائز الإنسان الأولى، ولا أستطيع إثبات ذلك، ولكن هذا ما يصوره لي عقلي ويبررهُ منطقي عندما أرى ألعاباً جديدة لكل جيل جديد، عندما أرى طفلا يكسّر لعبتـَه للبحث عن شيء داخلها تجعله يشعر باستمتاع أكثر.. ربما كان ذاك ميكانيكية التطويرِ منذ البدء!
أومن ولا أستطيع الإثبات أن البناءَ اللغوي والعناية به عند الأطفال قبل مرحلة الدراسة أمر مهم ينعكس على المهارات غير اللغوية في الشخصية، لاحظت عبر خبرة الاحتكاك بالبشر أن المجتمعاتِ التي تُعنى بتراكيب صحيحة للتعبير اللغوي عند الأطفال ينتجون نساءً ورجالاً أفضل مهارياً لمعالجة المواقف المنهجية والعملية والتطبيقية، وتقوى عندهم ملكةُ الذكاءِ التعاملي مع الآخرين، ويحسنون من القدرة على تقبلهم في واقع الآخرين..
أومن ولا أستطيع الإثبات أن الوعيَ بالواقع هو من منتجات الدماغ، وليس من بواعث القلب، ولا إشعاعات الروح، ولا نتيجة أيْضيةٍ من أي عضو في الجسد البشري، واعتمدتُ على إيماني بهذه النظرية في كلمتي أمام مجموعة ''الإعلام الجديد'' من الفتيات النابهات يوم أمس في جدة، ولأول مرة أتكلم في موضوع مُعَقـَّد (بالنسبة لي على الأقل) أمام أحد، خصوصا الشباب، إلا لامتحان نتيجة هذه القناعة، فالمحاضرة هي عبارة عن سؤالٍ كبيرٍ مطروح عقليا ووجدانيا وتطبيقيا على أخطائنا في واقعنا اليومي على كل الأصعدة وعلاقة الوظائف الدماغية والعقلية والوعي المُضمن بها، لإيجاد بنيةٍ فكريةٍ تؤهلنا لبناء أمّةٍ أفضل.. هل السؤال ما زال معلـَّقاً؟ اسألوا من حضـَرْن؟
أومنُ، ولا أستطيع الإثباتَ، أن التفوقَ بأي مهنةٍ أو عملٍ هو موهبة أكثر منها ممارسة، ولكن الممارسة قد تتغلب على الموهبة متى كانت محبوسة في جسَدٍ متقاعدٍ كسولٍ خامل الطموح. فليس كل جرّاح يمكن أن يبدع كالدكتور الربيعة في فصل التوائم السيامية حتى لو فرضنا أنه تعرّض لذات كمية التعليم والتدريب، ونفس جرعات التطبيق، ولكنها الموهبة التي رجّحَتْ يدَ الربيعة، وأومن أن أي شخص آخر من الممكن أن يكون وزيرا مكان الدكتور الربيعة لأن عنصرَ المهارة المُقاسَة رياضيا وعمليا شبه معدومة!
أومن ولا أستطيع الإثبات، بثلاث نظراتٍ: الدماغُ البشري الأروعُ، والأرقى تطوّرا، والأشكلُ تعقيدا، لأي مادةٍ كونيةٍ على الإطلاق. وأومن أن العقلَ لن يستطيع نهائيا حل كل مسائل وغموض الكون. وأومن أن العقلَ يحتاجُ دوما إلى العاطفة للتحليق في سماوات إبداعه، مهما قيل عكس ذلك.
والمُهم: ولأني لا أستطيع الإثباتَ، فإني أومنُ بالإيمان نفسه!
في أمان الله..