مقتطفات الجمعة 178
سنة النشر : 01/04/2010
الصحيفة : الاقتصادية
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 178 .
العقائد لما «تتطور» تتفرّع وتنشق، ويخرج كل مرّة متنبئٌ أو فيلسوفٌ أو من هو غارق في عظمته مع جاذبية خطابية ويستقطب الناسَ، فيصير عجَبا.. ثم، من تفرعها، تصبح في أحيانٍ إما شديدة الغموض، أو محفلية سرية، أو عفوكم .. تكون شيئا مضحكاً.
عندي كتابُ البهائية المقدس تفضل بإهدائه لي أحد كبار الأطباءِ الذين درسوا من سنوات طوال في إيران أيام الشاهنشاهية، والله كنت أفطس من الضحك أحيانا من ادعاءات البهاء «الباب علي ميرزا الشيرازي»، فهو يقول في فترة ادعائه النبوة في (آية) من (آياتِ) كتابه: «وحول المدينةِ أقبل علينا الصبية وهم بالحجارةِ يرمون* ولا مكان لنا إليه يهربون*»، تصوّر هذه آية؟! على أن البهاء لم يعدم أن يتبعه الآلاف، من كبار العلماء والمفكرين والأباطرة ... عجبٌ، عجَب!
وكنت عند الدكتور «ترافيدي» في بمباي بالهند، من أكبر جراحي الكلِى في العالم، وإذا أنا أسأله عن صحتي، بعد أن أجرى لي عملية، طالعني بوجهه المليء بتجاعيد العلم والعبقرية، ثم أرخى عينيْه الذابلتين بخشوع وإجلال، ورفع إصبعَه إلى أعلى وقال بتهدّج العابد الخاضع: «كل شيء من عندي تمام، ولكن (هو) الذي سيعطيك العمرَ، لا أنا ..» ونظرت إلى حيث يشير بإصبعِه، وإذا صورة قديمة ومنكمشة لصورة الإله الهندوكي «جانيشما» والخرطوم يملأ وجهه ليتدلى على كِرش ورديّ عظيم مع سُرّةٍ تكاد تخرج من جلد الكرش. وتعجّبتُ من قوة إيمان هذا الدماغ المنطقي العلمي بهذا ال.. جانيشما!
منذ القرنين السادس والسابع الميلاديَيْن «طوّر!» اليابانيون والصينيون فرعاً من البوذية التي وصلتهم من الهند، وأطلقوا عليها اسم «زِن»، ولو قسناها على الفلسفة المعروفة عند الإغريق واللاتين، لكانت هي فلسفة اللافلسفة، صحيح! بل ويؤكدون أن أي فلسفة أو أية أفكار أخرى، على الإطلاق، هي لا منطقية، ومخرِّبة، ولا معنى لها، ولا قيمة، ولا منطق.. ولا، ولا.. إلا فلسفتهم وتأملاتهم فهي الوحيدة التي تحمل مشاعل الإنارة الروحية والفيضية والعقلية. طيّب، إن لم تصدق، فإليك ما يقوله عادة معلم «الزّن» لمريديه وهو في قمة تنوّره وذروة ألقه التأملي: «ما الفرق بين البطة؟» تفضل يا أخي جاوب عن هذا السؤال؟! أو: «ماذا تسمي صوت تصفيق .. اليد الواحدة؟!»، ألا يأتيك عتـَهٌ وتحوَّلُّ عيناك عن هذه الأسئلة.. ولكن صبراً يا أصدقائي يجب أن تتفقهوا! فلا حكم بلا معرفةٍ بفقه العقيدة الزانية. معلمو وفقهاء «الزن» الكبار يقولون: «مجرد أن ينصعق المريدُ بسؤالٍ عميق مثل هذا تمورُ الإنارةُ بكامل كينونته.. وبعدين؟ ولا قبلين.. ليس هناك داع لأن يأتي أحدٌ بجواب!! هذا ما يسمونه بالزان «كو - آن» أي الصلاة التأملية التي توصل للاستنارة «ساتوري».
«قبل أن أشارف معارج التنوّرِ، كانت الجبالُ جبالا، والأنهارُ كانت أنهارا. وعندما وصلت لمرحلة التنوّر، الجبالُ لم تعد جبالا، والأنهارُ لم تعد أنهارا. وعندما وصلت لـ»ساتوري»، الجبالُ عادت جبالا، والأنهارُ عادت أنهارا .. هذه صلاتهم التي توصلهم للساتوري.. إي والله!
يسميها بعض مفكري الأمريكان «فلسفة الرأس الفارغ ِ Airheadism»، وهم منها ساخرون (على قولة صاحبنا البهاء)، إلا أنها فلسفة في منتهى الجدية، بل ظهرت في أواخر الستينيات من قلب «هارفارد» بنت ذوات جامعات العالم، ونبعت من رأس بروفيسور الفلسفة فيها «تيموثي ليري» الذي من أقواله إن الوسيلة للاستنارة العقلية هي هضم فِطـْرٍ سحري! وسُميت فيما بعد فلسفة العصر الحديث New Age Philosophy، وهي خليط من هوابط الفلسفة الغربية، وتهويمات التأمل الشرقي، وخزعبلات الكبالا اليهودية.. وباقة محترمة من الخرابيط الذهنية الراقية. ومن الأقوال الفخمة عندهم: «إني في توحِّدٍ مع ثنائيتي» فكـَها بالله عليك .. ولا الناقدان البازعي والغذامي يستطيعان معا تفكيك بنائيتها! ومن أسئلتهم العميقة التي تدل على طريق الاستنارة: «لو أنّ زيوس(رئيس الآلهة في جبل الأوليمب بأساطير اليونان) لم يوجد أصلا، فهل سيكون «بوسيدون» لا يزال أخاً له؟!».. أعطني شيئا أضربُ به دماغي!
يقال إن فيلسوف القرن التاسع عشر الألماني «آرثر شوبنهاور» كان رجلا من عرض الرجال القابلين والشاكرين بالحال، حتى تعرف على الفلسفة البوذية التي سبقته بألفي سنة، فاستغرقَ بها حتى غرِق. والرجلُ منذ تعرف على البوذية وهو غارق وأغرق من أتى بعده من المريدين والتابعين والشوبنهوريين بالتشاؤم. فالحياة كلها ليست إلا عناصر مترابطة ومتلاحمة ومتراكبة من المعاناة، والعِراك، والمكابدة، والإحباط، وما المخرجُ الوحيد؟ بسيطة.. الاستسلام! أو كما يقول بفلسفته: «الإنكار لمتطلبات الرغبة البشرية في حب الحياة، والتشبث بالبقاء».. يعني بالعربي المفهوم: انتحروا! والنتيجة: وتأملوا رجاءً معي، هي أننا لما نعطي انهزاميتنا من الحياة للحياة فسترتاح أرواحُنا وتهدأ، وكأنها صفقة مقايضة مع الحياة. ومعنى فلسفة «شوبنهاور»: «الحياة عندما لا نستطيع أن نحقق ما نريد هي معاناة، ولكن عندما نحقق ما نريد فهي .. ملـَل!» يا لله عاد؟!
وهذا يقودنا إلى سؤال الجمعة: هل هناك فرقٌ بين العقل والمنطق، هل يجب أن تكون منطقيا لتكون عاقلاً، أم عقلياً لتكون منطقيا؟ (أظن أن العدوى أصابتني!!).
في أمان الله ..