مقتطفات الجمعة 176
سنة النشر : 19/03/2010
الصحيفة : الاقتصادية
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 176 .
حافز الجمعة: أرجو أن تعذروني على الإطالة، وربما التقعّر قليلا، بحافز اليوم. وسأترك لكم كل الخيال والخيار في استنتاج العبرة أو العِبَر. هناك نوعان من الناس، كبُرا أو صغُرا في العمر أو بالمقام. شخصٌ يتبعه ويحتذي به شخص آخر، وشخص يتابـِع ويحتذي بشخصٍ آخر، شيءٌ كعلاقة الشيخ والمريدِ في الصوفية، والمعلم والمتدرب في الكونفوشية والزان. وسنسوق المثالَ بفيلسوفٍ من كبار عقليات الفلاسفة الألمان. كان الفيلسوف الفخمُ: «إيمانويل كانت» لا يغادر قريته الوادعة «كونجزبرج»، ويحكم نفسه بجدول عنيد رتيب ومنتظم يومياً لا يحيد عنه بصرامةٍ اشتهرت عنه فهو يمرّ على الناس في مشيته اليومية ثم يضبطون ساعاتهم على ظهوره، لأنه دائما يكون هناك في الوقت المحدد، حتى اشتهرت بالألمانية بـ «فيلسوفن جانج» أي «مشية الفيلسوف».
أما «كانت» فقد كان يضبط ساعته على برج ساعة الساحة بالقرية، لأنها التي تعطي التوقيت الألماني الدقيق والمرتبط بدوران الأرض .. وهو هنا يمارس ما آمن به دوماً بإعطاء السيادة للمقدماتِ المنطقية، بينما كان أهل القرية يضبطون ساعاتهم على «كانت» انطلاقا من فرط ثقتهم وعمق اعتقادهم بانضباطية «كانت». والتحليل المنطقي يقول كلاهما وصل إلى نتيجة صحيحة: «كانت» ضبط ساعتـَه على آلةِ وقتٍ دقيقة، والقرويون ضبطوا ساعاتهم على انتظام كانت الذي يحرص أن يظهر بذات المكان بذات الوقت. ولكن هل هناك عبرة أو عبرٌ أخرى؟ ما هي؟ أخبروني تفـَضـُلاً!
قضية الأسبوع: يختفي بعض الكتاب والكاتبات من صحفِنا، فيتركون فجوةً في مكان اختفائهم، فهم كالنجومُ المشعة حين تظهر مقالاتُهم على الجرائد، وعندما يختفون فهم لا يذهبون للعدم ولا لمجاهل النسيان المطلق، إلا إن كانوا من النوع الذي لم يُؤْبَهُ له في الظهورِ فلا يُنْتـَبـَهُ له في الاختفاء، فآلية النجوم الأزلية تقول إن النجمَ الذي يغور يكون هوةً عملاقة في الفضاء ذات جاذبيةٍ خارقة تبلع كل ما حولها، وهنا فالأفكارُ لا تختفي فهي تظهر إما بفعل عامل الجذب، أو الظهور في مكان آخر، أو فيما يخبرنا عنه «حافزُ الجمعة» بأن هناك أشخاصاً يتبعون أشخاصاً آخرين فيظن مُعجَبو الكُتـّاب أن هؤلاء الكتاب هم شمسهم البازغة، فيتتبعونهم في كل مشرق وينتظرونهم قبل الغروب، فإن لم يشرقوا أشرقوا بهم هم في أذهانهم، وهذا أخطر أنواع الإشراق. قرويو «كونجزبرج» ضبطوا ساعاتهم على شخص أعجبوا به، فتبعوه في كل شيء حتى في الوقت، مع أن آلة الوقت منتصبة أمامهم .. أي كاتب أو كاتبةٍ يألفهما ويعجب بهما الناس قد يكون تفكيرهما أشد أثرا في تغييبهما من أثره في جلاء إشراقهما!
ولكن «إيمانويل كَانْتْ» كان منضبطا دقيقا، وكان بإمكانه أن يخادع الناسَ في الوقت لو أراد بعد أن وثقوا به, وهنا أيضا على الكاتب أن يعرف أن من حق أفكاره التي يؤمن بها ويستفيد منها الناس عليه أن تستمر وتحيا، وألا يقضي عليها هو بنفسه بالتعنتِ والعنادِ والمجابهة المفضوحة، واستعداء الأقوياء، بل عليه أن يحمي أفكارَه ويداريها من عواصف القلع، ثم يبرزها عالية كنجم الشمال عندما يصفو أديم السماء، ثم يعاود هذا وذاك، حتى يبقى كسنبلة القمح التي لو عاندت الريح وقاومتها لجاع كل من على الأرض. هنا يحتاج الكاتبُ إلى تكتيك ودفاع وذكاء ودهاء وكاموفلاجا، مع إصرار على الوضوح بطرح الموضوع لا اللجوء للرمز والتعقيد، وعدم التقولب الحاد في إطارٍ لا يتسع ولا يضيق، ولا يُعيد طلاءَ نفسِهِ .. إذن، وبما أن لا مجتمعَ أنموذجيا في مسألة الحرية، فعلى الكاتب مسؤوليةِ حماية بقاء مقالاته، مع التمسك بالمبدأ. عليه أن يستمرّ في السير ويضبط الوقتَ معا!
وكنا نتحدث، في منزل الدكتور الزميل «عمرو رجب»، الدكتورُ «محمد القنيبط» وأنا، وأفادني عن مقال له كتبه من عقدين من الزمن حول مسألة خطورة نضوب المياه الجوفية لو راحتْ الأمة لخيار زراعة القمح حينها.. وتدور السنواتُ ويصح توقعه، الذي كان يتمنى ألا يكون صحيحا، وطلبتُ منه الدراسة وأمدني بها، ولعل يأتي يوم نناقشها هنا ولو باختصار بعد إذنه. في الفترة نفسها أو قبلها كان الدكتور منصور الباحسين وكان أستاذاً جامعياً في تخصص الزراعة (كما القنيبط)، ووكيلا لوزارة الزراعة (ليس كالقنيبط!) قد كتب مقالا مدوياً محذّراً أمته من خطر استنزاف المياه بزراعة القمح .. انظر كيف نحتاج إلى أفكارُهما الآن، التي ثبتت صحتها، أشد مما مضى. الكاتبان كلاهما انقطع عنا.. فمن الذي خسِر؟!
لغزُ الجمعة: لماذا تظهر مقالةٌ لكاتبٍ فيها الأفكار نفسها التي تظهر في مقال كاتبٍ آخر تم منعها؟ فأترككم مشتاقاً مع «لغز الجمعة» لعله يكون طريقا للاهتداءِ للحل عبر الحل: «دخل رجلٌ مطعماً ومعه كلبه الضخم من فصيلة الراعي الألماني، فسُمِحَ له، بل وخصِمَ له من فاتورته احتفاءً من مدير المطعم .. ودخل رجلٌ آخر ومعه كلبه الصغير «تشواوا»، فمُنع بضراوةٍ بلا تردد.. لِمَ يا تُرى؟!
في أمان الله..