مقتطفات الجمعة 170

سنة النشر : 04/02/2010 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة رقم 170 .
 
بينما في مانيلا.. 
 
 حافزُ الجمعة: لا يمكن أن تكتسب ولا تتعلم القدرة على أن تترك أمراً يتعلق به قلبُك، ويتعطش له وجدانك، مهما بالغت بمحاولة تركه، حتى لو كانت الظروفُ صعبةٌ وشاقة، والمهمة متعالية التعقيد في الوصول والبقاء والاستمرار.. لا يمكنك أن تتمتع بجمالياتِ الحياة مهما لصِقـَت بفيزيائك المادي متى كان ذاك الأمرُ فوّارا بمجمل حضورك الذهني والجسدي والعاطفي.. فلا تملك إلا أن تنجرف خاضعاً مع التيّار.. لعلك تصلُ إلى ساحلٍ يمكن لقارب هذا التعلـّقِ أن يجد فيه مرفأه النهائي.
 
رابطة العودة للجذور: طلبت من الأستاذة ''شريفة'' المشرفة على رابطة العودة للجذور في مانيلا، وهي أيضا واحدة من أعضاء الرابطة، وعامِلة مُجِدّة في السفارة السعودية هناك أن تخبر جميع أعضاء الرابطة للاجتماع كعادتنا عندما نكون في مانيلا.. نناقش فيها الأمور الخاصة لكل ابن أو ابنة، والأمور العامّة للرابطة على الإجمال. ووجدتُ هذه المرة أن هناك تعلقاً واضحاً أكبر في بلادهم الأم.. وفي دينهم، صحيح أني طلبت منهم الاطلاع على معلوماتٍ عن بلدنا وديننا في مواقع بالإنترنت، ولكني فوجئتُ بحجم المعلومات، والحفظ الذي استقر بالأذهان، وكان هناك شيء أكبر وهو.. الفخر. ''نوّاف'' يهمس في أذني بأنه يحفظ سوراً صغيرة من القرآن لأول مرة، وذهب من تلقاء نفسه لإخوان سعوديين وعرب في مانيلا ليتعلم النطقَ وقراءة الحرف العربي.. وأخته مشاعل تتعلق بأي شيءٍ سعودي حتى أنها لا تلبس إلا ملابس يكون الأخضرُ بها غالبا، و''جميل'' ينتظر وعدنا له أن يعمل بالسعودية أول تخرجه في الجامعة، والمفاجأة أنه تفوق بفصله الجامعي من دافع الحماسة ليكون كما قال ''لائقاً كي أعمل في بلدي الأم''. كل يوم تكبر الرابطة، ويتفاعل أثرُها، وتتأصل العلاقة بينهم وكأنهم أسرة واحدة، وجاء الوقتُ لتكون رابطة رسمية معترفا بها من حكومتنا، ومدعومة منها ومن الخيّرين الذين لا يمكن أن يرضوا أن يروا سعوديين وسعوديات يعيشون متروكين في الفلبين ثم يعتنقون ديانةً ولغةً جديدة. على حرصي على البدء في إندونيسيا حيث مئات من أطفالنا المتروكين، إلا أن الذي يجعلني أبدي الأولوية للفلبين هي مسألة الدين، فيبقى أولادُنا في إندونيسيا والعالم العربي مسلمين، ولكن في الفلبين يتخلون عن كل شيء.. أو يتخلّى عنهم. واجبنا أن نحتويهم، حتى وإن تركهم آباؤهم، عندي شعورٌ أن اللهَ سيحاسبنا إن عرفنا عنهم وتركناهم ونحن بمقدورنا أن نعمل أشياءَ من أجلهم.
 
قابلتُ سعادة الأستاذ ''عبد الله بن إبراهيم الحسن'' سفيرنا الجديد في مانيلا، وبالطبع نفتقدُ حضورَ ولطافة سفيرنا السابق سعادة الأستاذ ''محمد أمين ولي''. السفيرُ الحسن رجلٌ مثقفٌ بالغ الدبلوماسية بطبيعته الطلِقة، وليس في اكتسابه، فهو رجل إدارة أكثر من كونه دبلوماسيا ممتهناً، إنما طبعه الغالبُ هما الكياسة والتهذيب الواضحان فصارت الدبلوماسية من عفو الطبيعة. الأستاذ ''الحسن'' أمامه مهمة أن يجعل الفلبين وبالذات الجنوب المسلم ''ميندناو'' منطقة ذات منفعة مضافة لنا في الباسفيك. فما زال تعاملنا مع الفلبين برأيي أقل مما يتناسب من المنافع التي من الممكن أن تعود علينا ماديا وحضاريا منها، وكذلك ستعود فائدة أعمّ بالتبادل على الفلبين. الفلبين دولة لها ''خصوصية'' وحيدة في آسيا إن لم تكن في العالم، وهي أنها دولة أرضية عالمية لا تنغرس بها ثقافةٌ مغلقة أو أصلية، وبالتالي التفاهم مع الرأي العام الفلبيني سهلٌ جدا لوضوح الرأي والذوق العامَّيْن. أما ''الميندناو'' فهي من آخر قلاعنا الدينية الصافية في آسيا، وبدأ الغزوُ يأتيها من كل صوب.. إلا منا نحن! بإمكان السعوديين أن يسجلوا حضوراً عمليا وتجاريا يفيد الاقتصاد، وفي الطريق سيكون ذلك عاملاً لتعزيز الارتباط مع مسلمي المنطقة وسيساهم في تعزيز السلام فيها.. إنها ليست كنزنا الضائع، بل هي كنزنا الذي لم نحاول فتحه. وأتفاءل أننا بوجود شخصية مثل السيد السفير ''الحسن'' ستبدأ أبعادٌ لفهمٍ جديد.
 
حكاية ولا من ألف ليلة وليلة: تقول ''شهر زاد'' عن بعض حكاياتها إنها ''تُكتَبُ بالأُبَرِ على مآقي البصر لتكون عبرةً لمن اعتبر.. وكذا قصة بطلـَتَـَي الصغيرتين ''فائزة وماهرة'' – الاسمان مستعاران- الكبيرة فائزة عمرها 18 عاما، والأصغر 17عاما. تركهما أبوهما وهو من دولة الإمارات، بعد أن كان أبا صالحاً، والكبيرة في العاشرة من عمرها. أما الأم، وهنا حادثة أسمع عنها لأول مرة من حكايا رابطة العودة للجذور، فقد تركت الزوجَ والفتاتين والكبرى لم تبلغ السادسة، بعد أن عشِقـَت أسترالياً، ورحلت معه وأنكرت ابنتيها. وجدَتْ الفتاتان نفسيهما وحيدتين وهما في العاشرة والتاسعة، مقطوعتين من أي صلة. لن يكفي المكانُ لسرد معاناتهما التي تذيب الصخرَ الأصم، ولكن الكبرى صارت الأم والأخت للصغرى ونجحتا بما يشبه المعجزة أن تبحرا معا ببحرٍ مليء بالخطر وضواري البحر لتتمكنا من التفوق في كلية التمريض، واحدة من بناتنا السعوديات هناك عرفت من الوهلة الأولى أنهما عربيتان. قابلتني الفتاتان، وبكينا معا، وتفاءلنا معا.. ولما أرادتا أن تشكراني فاجأتاني بأن وقفتا أمامي متلاصقتين، لا يعرفان من دينهما ولا لغتهما شيئا، لترفعا رأسيْهما للسماء، وتضعا يديهما بطريقة التضرع في الدعاء، وتنشدان:'' طلعُ البدرُ علينا..'' آه، لن أقول لكم ما صار لي بعد ذلك!
 
شكري العظيم وامتناني للقائم على سفارة الإمارات الأستاذ الصديق ''إرحمة الشامسي''، الذي أخذتُ البنتين إليه مع أوراقها، فقال لي، بعد أن ظهر عليه التأثر العميق: ''اطمئن فهما الآن ابنتاي!''.
 
اليوم الذي قابلت فيه ''فائزة'' الأخ ''الشامسي''، تغيرت حياتها وأختها إلى الأبَد، وانتهى فاصلُ مأساتهما المُرّة.. ذاك اليومُ صادف يوم ميلاد فائزة!
 
في أمان الله.