مقتطفات الجمعة 156

سنة النشر : 16/10/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 156 .
 
انتقلت إلى الرحمةِ الإلهيةِ «عائشة الخالدي» مريضة مرض الرحمة، التي تحدثنا عنها مطولاً بالرجاءِ والدعاءِ والحزنِ والحسرة.. انتقلتْ بعد معاناةٍ لا يعلم بها إلا خالقُ السعادةِ والمعاناةِ على الأرض. عائشة ساهمتْ الظروفُ والإراداتُ الضعيفة وفقدان التعامل الإنساني بأبسط أولوياته بأن تكون آلامُها وعذاباتـُها ملحمة متواصلة لأشهر، وتألـَّم معها ولها كل من عرفها من قربٍ أو من بعيد.. حملتْ أوجاعَها من الولايات المتحدة حيث أُنـْهـِيَ علاجـُها قبل أن يكتمل بشهادةِ المستشفى ذاته، ثم أُحْضِرتْ للمملكة ولم يستقبلها مستشفى كأبسط ما يجب أن يكون بلا منـّةٍ ولا تأجيل، ولم يقبلها سوى مستشفى شركة أرامكو، بعد أن كان قد وصل لي بالخطأ عن ذهابها إلى ألمانيا، فإذا هذا أيضا لم يتم.. ومستشفى شركة «أرامكو» الوحيد الذي قبلها ليس مجهزا لحالاتِ مرضى الرحمة التي كانت تعاني منها عائشة، فاضطر إلى إخراجها للمنزل ناقصة العلاج، وقد اضطرمَ شـَرَهُ المرضِ يأكل ما تبقى من الجسدِ العليل.. وأخوها سلمان وقف مع أخته موقفاً لم أرَ أنا شخصيا من يتفانى مثله من أجل قريبٍ له، حياتـُه هو أيضا تدهورتْ من أجل الجري وراء رجاء شفاء أخته، جرى وانكبّ على وجهِهِ ، وأُهينَ وطـُرِدَ، وذُهِل، ولكن لم ييأس ولا للحظةٍ أن اللهَ من فوق يرعاهما.
 
وفي المنزل هجمتْ الآلامُ دفعةً واحدة على عائشة إكمالاً لمسيرة عذابٍ لم تعرف غيرها في فترةِ حياتِها الأخيرة، ودار بها أخوها بين المستشفيات ولم يقبلها ولا مستشفى.. وضاع صوتُ سلمان وهو يقول لي ذلك، ولم أعلم.. هل جره ألم الفقدان للضياع؟ أم استرجاعه لآلام الحسرةِ والقهر وأخته بين يديه.. تموت بين يديه؟ وبإذن من وضعَ الروحَ في عائشة واستردّها، فإن أوجاعَها الكبرى طهّرَتْ كل أعمالها لتعود صافيةً طاهرة لبارئها لتذوق طعمَ الرحمة وطعمَ الصحة الأبدية في الخلود.. الطعمان اللذان لم تعرفهما في حياتها.
 
حافزُ الجمعة: الموتُ آتٍ في يوم لكل منا. ويمكننا الموتُ ونحن قد وقفنا أمام كل ما يهدد إيماننا في صانع الأكوان ومدبّر الأقدار، ويمكننا الموتُ ونحن نعلم أننا قاتلنا من أجل مبادئنا وما نؤمن أنه هو الأمرُ الحقّ، وهو السبيلُ الصحيح، وهو الهدفُ الأرقى.. ويمكننا الموتُ، وانتظار الموت، وكأننا نحيا أبداً حين نجعل من كل لحظةٍ نعيشها لحظة أجمل ما في الوجود الإنساني، وأن عملا صغيرا نافعا تفعله إنما هو إرسال إشارةٍ صغيرة تنضم لإشاراتٍ لتتعاظم مع موجةٍ كبرى تشمل الوجودَ الكوني. عندها فأنت تحيا لا لكي تموت، ولكن تحيا لتعزز من حياتك كل يومٍ أكثر، ليكون يومُ مماتـِك أبهى، لأن وجودا آخر لا تعبَ فيه ولا نصَبْ بل ضوءا خالدا ينتظرك، ليكون الموتُ جسراً مُشِعّاً إلى الأبدية.
 
رأى الأم والأب الفـَتِيـَّان ابنـَهما لسنوات ستٍ وهو يكبر، وهو يضحك، وهو يلعبُ، وهو يملأ حياتـَهما بحياةٍ أخرى.. حياةٌ توازي حياتهما أو أكثر. رأيا في وسط الحبورِ حتمية النهاية مع فورةِ البداية.. رأيا الحبَّ الذي يسعد الفؤادَيْن يختلط مع الخوفِ الذي يُرعبُ الفؤادَيْن.. فكان ابنهما يحمل في خلايا حياتِهِ نـُذُرَ موتِه. كان المرضُ الوراثي الذي لا علاجَ معروفا له، كما قال لهما الأطباءُ يوم أن أطلق صرختُه الأولى وهو يرى أول قطراتِ نور الدنيا، أنها صرخةٌ سترنُّ أصداءً في وادي الموت بعد سنواتٍ قليلة.. على أن الأبوين الشابين قضيا كل دقيقةٍ مع طفلهما يرجوان قدرَ الله، ويرضيان بما حقّ لهما من رضاه.. وما رأيتُ الأبَ إلا مبتسما وبروحٍ اشتهر بفكاهتها وخفتها وكأنها الأثيرُ ذاتُه. وقضى الله أمراً كان مفعولا، واختفتْ تعانقُ الأبـَدَ ابتسامة الطفل، وبقيت ابتسامةُ الأبَوَيْن.. ابتسامة الفقدان والإيمان والاحتساب. وشجاعة أنهما واجها الموتَ بثباتٍ في كل ساعةٍ تمرّ يوم كان ابنهما يجولُ في أرجاءِ البيت، وقلبيهما. ويعرفان أنه - إن شاء الله - شفيعٌ لهما عند الله، وأنه بإذن الله، سينتظرهما ليضع يدَهُ بيديهما عند بواباتِ الفردوس.
 
رأيُ ألأسبوع: سرُّ الشبابِ أنهم مناخٌ يحمل ريحَ عبير الزهور، أنهم ينتقلون بالطين الإنساني إلى مقام أسمى ليكونوا كطين الزهورِ يفوح بسرِّ العطورِ للعالمين. وسرّ الشباب هو تلك الطاقة التي تحرك مولداتِ العمل الاجتماعي والخيري والتطوعي والابتكاري. الطاقة التي تحرك القاطرة التي ستجرّ كل عرباتِ الأمّةِ من ورائِها. رأينا كيف كانت مجموعات عملية تطوعية شبابية بدأتْ بأعدادٍ قليلة، وبجهودٍ متواضعةٍ، لتتتشعبَ أعمالا، وتتزايدُ أعداداً، وتتضاعف إنتاجاً، حتى إن المراقبَ لن يستطيع التقاط النفَس وراء النفـَسِ من فرط دهشتِهِ بفورةِ هذا النمو.. الناسُ مهما توقعوا وسمعوا من أعمالِ وإنجازاتِ الشباب، إلا أنّ ما سيرونه يتحقق أمام أعينِهم من إنجازات الشباب سيفوقُ كل توقعاتِهم. ومع ذلك لو سألتَ الشبابَ لقالوا: «ما زلنا في البدايةِ، لتوِّنا وضعنا الخطوة الأولى». والشبابُ متى وثقنا نحن بعقولهم فهم الذين سيحلـّون أكبر ما نواجه من قضايا: قضايا الشبابِ أنفسِهم!
 
للشاعر الفارسي «سعدي» شاعرُ الجمالِ والحكمةِ قصيدةٌ نقتطف منها (نقلاً عن الإنكليزية): سألوا قبضةً من الطـِّينِ: ما أنتَ؟ فأجابَ بطبعِهِ الغافي: ما أنا إلا قطعة طين.. ولكن كيف تضوع منكَ عطورُ الزهور؟ «هنا السرُّ» ردَّ الطينُ: «لقد كنتُ طيناً للزهور!»