مقتطفات الجمعة 155

سنة النشر : 09/10/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 155 .
 
حافزُ الجمعة: من يُظهرُ شجاعةً نادرة في ساحة الرأي والمجاهرة بالفكر الذي يوقن أنه جديرٌ بالاتباع، الذي يتصدّى لما يرى أنه من الأباطيل الذائعة، وأنه نقضٌ لأفكارٍ خاطئة، هو من النوع البشري الذي يضيء الطريقَ. وقد يلاقي عنتاً، ويفقد من حوله من الأصدقاء والمعاضدين، ولكنه يعرف أن للشجاعةِ الأدبيةِ ضريبةٌ يجب أن تؤدَّى بصبرٍ واحتمال. السباحة مع التيار العام لا تعتبرُ سباحة ولا جُهدا، إنها نوع من الطفو والاستلاب المطلق، السباحون الحقيقيون هم من يختارون التيار لا هو يختارهم، فإن مضى باتجاههم مضوا معه، وإن عاكس رؤاهم فإنهم سيجاهدون سباحة ضده حتى يصلوا لمصبِّهم اليقيني، أو يدفعوا برضىً ضريبة السباحةِ ضد التيار. وحينها سيدوّنُ الحُكمَ عليهم بسجلّ تاريخ ضمير الإنسانية.
 
قضية الأسبوع: هي استيحاءٌ مما طلبته القارئة الفاضلة «حكمة طفلة» ـ في اقتراحها بتخصيص موضوعٍ عن «الفردوسِ المفقود» الأندلس. والقضية المطروحة للنقاش هي فيما إذا كان التاريخُ يعيد نفسَه؟ «نيتشه» فيلسوف القوّة الألماني ظهر على عالم الفلسفة بنظرية «التكرار الأبدي The Eternal Recurrence»، فعنده أن الأبدية المتواصلة هي عبارة عن دائرةٍ تتكرر بها الأحداثُ عينها ولكن بعد دهور. بينما يرى المؤرخُ الإنجليزي «أرنولد توينبي» بتطرفٍ عكسي أن التاريخَ لا يعني الحاضرَ ولا المستقبل، ولا يمكن أن نتخذ من التاريخ نماذجَ لتجارب الحاضر والمستقبل. ورأيي الصغير أن الناسَ هم يصنعون التاريخ، فالتاريخُ ليس ماديا متحرّكا، فكما نكونُ تكونُ أيامُنا. هل تعودُ الأندلسُ، هل يعود بريقُ ماضينا؟ الإجابة ليست عند التاريخ!
 
قرطبة: كانت قرطبةُ في العصرِ الوسيط منارةَ العالم الفكرية. وكان يأتي لها من كل مكان طلابُ العلم والمعرفة، والشغوفون بروائع التطور في «مدينة المعرفة» كما كان يسميها أهل «جنـَوَا»، الإمارةُ الإيطالية قبل توحيد إيطاليا على يد «غاريبالدي»، فقد كانت إمارة غنية لتوها بدأت بالظهور، فترسل الأسَرُ الكبيرة أبناءها لجامعاتِ قرطبة ليس للعلم فقط بل للتباهي، وكان الآتونَ من هناك يفخرون برمي مصطلحاتٍ عربية تجعلهم محطّ الحسدِ والإعجاب، وقرطبة مدينةُ الجمال والحدائق والأنهار، والهواء العليل، ودارت فيها حكايا الغرام الكبرى، وقصص الكيد والمؤامرات في الدواوين والبلاط، وكثرت فيها مدارسُ الجدل والفلسفة والعلم والمنطق وأدب الرحلات والكشوفات الجغرافية.. وخرج من قرطبة أعظم الشخصيات العلمية والفلسفية والصوفية والشعرية والإدارية، وفنون الحكم. في ذاك الزمان كان العالمُ كائنا بعينين، عينٌ غافية هي بقية العالم.. وعينٌ مستيقظة هي: قرطبة!
 
كنا هنا تكلمنا عن «ابن حزم» واحد من عقول قرطبة الذي جرتْ علومُهُ عبر القرون، وهناك ماجدٌ من أمجاد قرطبة وشيَّدت له المدينة تمثالا مثل صاحبه، وهو «أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد»، عميد فلاسفة أوروبا خلال العصور الوسطى، عاش عمره يدعو للتوفيق بين الدين والعلم، وهنا سرّ العظمة العقلية، فالعلم بلا دينٍ أعرج، والتدين بلا علمٍ أعمى، قالها من بعده أنشتاين. إن التضحية بالعلم من أجل الدين أو العكس هو قص أحد جناحي طائر ليبقى رابضاً حتى يموت. أثبتَ بالعقل والمنطق أن الدينَ والعلم متفقان، وشرح أرسطو بصفاءٍ عقليٍّ محض، أيقظ كل أوروبا من بعده، كما كتبَ كتابا خالصاُ في الفِقه وهو «بداية المجتهد ونهاية المعتقد»، وإن أردت أن تطيرَ على سجادةِ المتعة العقلية، فاقرأ رسالتـَهُ البديعة التي شرح بها نظريته «فصل فيما بين الشريعة، والحكمة من الاتصال». وستخرج بأنه عقلٌ عزّ له نظير.
 
سمعتم عن «روبنسون كروزو» الذي عاش وحيدا في جزيرة نائية، وعن «طرزان» ابن الغاب، إلا أن من سبق الاثنين وجمع فكرتهما في كتابٍ فلسفي باحث عن الحقيقة الإيمانية الكبرى هو «أبو بكر بن عبد الله بن طفيل»، وكان طبيباً في المدينة المزدهرة الأخرى غرناطة، والكتاب هو المشهور باسم «حي بن يقظان» الطفلُ الذي أرضعته في غابةٍ غزالة، ثم كبر بعيدا عن الناس والحضارة واكتشف الحقيقة الأولى: أن اللهَ وراء كل شيء. ولقد نقـَدَ بن طفيل بطليموس، وفلسفة الفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن رشد، مع أن الأخير من تلاميذِه. وقال عنه المؤرخُ الشهير سارتون: «إنه دوما الأقرب للصواب. وكتابه (بن يقظان) ليس له مثيل.» وهو من شجّع ابن رشد ووجّهه لشرح أرسطو، ومن ألطف آرائِهِ أنه يؤمن أن الأخلاقَ الحميدة هي التي لا تعترض طبيعة البيئةِ المحيطةِ بسيرها. والأخلاقُ الحميدة تعني بلغة فلاسفة ذاك العصر المشاريع والأعمال الناجعة.. فعندما تقيم عملاً يعترض الطبيعة المحيطة فإن لا وجه له للكمال والنجاح. وقرأتُ له أن الحفاظ على الحياة الطبيعية من لوازم الحياة وواجبات الفرد «فإن رأيتَ نبتةً لا تصل إليها أشعة الشمس فأزِلْ ما يغشى وصول نور الشمس فوقها.» لو علموا حزب الخُضْر لاتخذوا هذا شعاراً دائماً لهم!
 
وكانت أمة الأندلس حاضنة أكبر مكتبات العالم في القرون الوسطى على الإطلاق. وأهمها «المكتبة الأموية» (لو قيست بنسبة الزمان والوسيلة، لتفوقت على مكتبة الكونجرس الأمريكية) ضمَّتْ ثمراتِ الفكر الأندلسي والعربي، ويقترن تاريخُها بتاريخ المستنصر ولد عبد الرحمن الناصر؛ حين اتسع نطاق هذه المكتبة اتساعا هائلا، لتكون مكتبة عظمى.. الأعظمُ في عصرها. قيل إنها حوت أكثر من ستمائة ألف مجلد، وعدا هذه المكتبة العظمى في قرطبة، كان هناك أكثر من 70 مكتبةٍ عامةٍ مزدهرةٍ في قواعد الأندلس الأخرى. وبما أننا أشرنا إلى إعادة التاريخ لنفسه، فلم لا تعمل وزارةُ الثقافة والإعلام على إنماء مكتباتنا الحاضرة على الأقل؟
 
وقال ابن خلدون عن صديقهِ ابن الخطيب صاحب « الإحاطة في تاريخ غرناطة» إنه آية من آيات اللهِ في النثر والنظم والمعارف والآداب. وكان موهوباً في الزجل - من فنون الشعر الذي ذاع في الأندلس - ومنها قوله: أنت في حُسنكَ فـرْدُ كل حُسنٍ منكَ يبدو أنتَ بدرٌ أنتَ شمسُ أنـتَ آسٌ أنتَ ورْدُ