مقتطفات الجمعة 149
سنة النشر : 21/08/2009
الصحيفة : الاقتصادية
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 149 .
يطيبُ لي أن أهنئكم بحلول الشهر الفضيل رمضان. وأسأل اللهَ فيه أن يقوّمَ أعمالـَنا ويبارك بها، ويعيننا على إكمالِ واجباتِهِ، وعلى قضاءِ حاجاتِ الآخرين.. آمين.
حافزُ الجمعة: الحياةُ صعبة..هذه حقيقةٌ عظيمة. بل واحدةٌ من أعظم الحقائق فمَن يرى أن في عناصر الحياةِ الحتميةُ الصعوبةُ والمعاناة، فإنه سيقبل بها، وسيتعامل معها، فيسيرُ مع الحياةِ، وتسيرُ به. لمّا نرى الحياةَ صعبة، ونفهم أن الحياةَ صعبة، ونرضى بها، فإنها، وهنا فسحةُ الأمل الساطعة، لا تعودُ صعبة. إن القبولَ والتعاملَ مع صعوباتِ الحياةِ أولُ وأنجعُ الحلولِ لتسهيلها.
وفي صحيفة ''مانيلا بولِتـِن'' الفلبينية في الثالث عشر من شهر أغسطس الجاري نزل خبرٌ بعنوان كبير هو: ''أُسْقُفٌ معروفٌ يحتجّ على هدم مسجدٍ عريق لإقامة كازينو قمار مكانه''. والجماعاتُ الإسلامية أرسلت تحذيراً واضحاً وقوياً للحكومة الفلبينية: ''إن جرأتْ يدٌ وامتدّتْ للمسجد فإن دماءَنا ستكون فداءً له''. وفي بيان آخر: ''إن رمضانَ قادمٌ وسيكون موتـُنا دفاعاً عن المسجد، والذي هو رمزُ ديننا الإسلامي، عبارة عن أجريْن، فمع أجر الصيام فسنستبسلُ من أجل أجر الشهادة''. أبلغتُ سفيرَنا الأستاذ محمد أمين ولي بالحال وهو على رأس الموضوع، وقال إن في الخبر لغطا وإنه سيُهدم من أجل بناء معبر طريق وسيقام مسجدٌ في موقع مقابل. القصدُ أن المملكة هي التي يتوجه لها المسلمون في الشرق الأقصى، ونحن يجب ألا نترك أعمالا خطيرة ضد الحق الإنساني للمسلمين كما تقرّه كل نظم العالم المرعية دون أن تكون لنا الكلمة الأولى في الأمر. هل يعتبر هذا تدخلاً داخليا في أمور دولةٍ أجنبية؟ سؤالٌ أتركه معلقا لقرائي الأعزاء، ولأساطين السياسة والعلاقات الدولية، ولكني من منظوري الصغير أراه حقاً إنسانياً عالمياً يجب أن تتدخل به المنظماتُ الدولية، وأولاها نحن. والساحةُ العالمية ملأى بالدلائل الشاهقةِ على التدخل الدولي المباشر في القضايا الإنسانية العامة.
بعيدا عن مسألة التدخل من عدمه، فهذا هو أُسقف (Bishop) أكبر كنيسةٍ كاثوليكية في الفلبين يصرّح محذراً: ''إياكم أن تهدموا المسجدَ، وإلا فهو الخرابُ العام.. إيّاكم أن تجرحوا المسلمين في أعز أصولهم الدينية، وإلا فهو الغضبُ الجارفُ الذي لا يُبْقِي.. إياكم أن تجرؤوا حتى على التفكير، فرمضان، شهرُ المسلمين المقدس، على الأبواب''. وصدق الأسقفُ الكاثوليكي، فهو، حتى الآن، أقوى صوت في الأرخبيل الفلبيني وقف صراحةً ضد مشروع الهدم.. بل هو يقول: ''كيف يستقيم المنطقُ أصلاً بهدم بناء نورٍ وفضيلة، لتشييد بناءِ خطيئةٍ ورذيلة؟''
وكتلميذٍ للحياة، علمني طفلٌ لا يتعدى الثانية عشرة من عمره درساً بمعنى قبول الصعاب.. عرفته يوماً في قارعة طريق بمانيلا عاصمة الفلبين وأحببته من كل قلبي، وراحتْ مجهوداتي عبثاً في جعل والده السعودي يعترف به، ولكني أشكرُ هذه الفئة التي تجمعتْ تحت لواءِ ''رابطة العودةِ للجذور''، التي ضمّتْ الطفلَ إليها، وأعضاؤها من أولادِنا وبناتِنا المتروكين هناك، تضيع ثقافاتُهم، وانتماؤهم، ودينهم.. ويضيعون في أسفل طبقات الحياة. وكان هذا الطفلُ، والذي قادني إليه مشكوراً صديقـُنا المقيم هناك ''أبو عبد المحسن''، يدور في الشوارع يشحذ يجر أمّه التي أعاقها المرضُ.. ثم ماتتْ. كان اسمه ''سام''، واتفقنا في الرابطةِ أن نغير اسمَه إلى ''سالم''، وفرح بالاسم وفرحَ بمعناه.. في هذه الزيارة كنت أتفقد أعضاءَ الرابطة التي تتشكل بصعوبة، ولم أعثر على سالم.. لذا اضطر أبو عبد المحسن أن يقول لي الحقيقة: ''سالم مصابٌ بمرض الرحمة، ولقد توافرت له تبرعاتٌ من خيّرين سعوديين ليدخل مستشفى أطفال متواضعا.. قفزَ قلبي قبل أن أقفز مع أبي عبد المحسن لزيارة سالم. كان المستشفى نظيفاً رغم قِدَمِه وتواضع تجهيزاته، وترعاه كنيسةٌ عالمية، وكانت الممرضاتُ والراهبات يَدُرْن في المستشفى كأنهنّ بلا أقدام بملابسٍ فضفاضةٍ تغطي الأقدامَ وبحركةٍ دءوب. وصلنا لجناح مرضى الرحمة، وأخذتنا الأختُ ''ماريا'' (راهبة) إلى حيث يرقد سالم. نسيتُ أن أقول لكم إن لسالم موهبة أخاذة، فرغم صغره وتقطع ذهابه للتعليم، إلا أنّه موهوبٌ باللغةِ الإنجليزيةِ، ويكتبها بخط جميل.. ويأخذ القلبَ ويدهشُ العقلَ وهو يتحدث بها، (هه.. تلقى تعليمه المجاني في مدرسة القلبِ المقدّس للأخوات المسيحيات) ..
''سالم'' كان هزيلاً أكثر من المعتاد، ولكن ابتسامته لا تخفى، والأغربُ بريق السعادةِ في العينين الصغيرتين.. عانقتُهُ، وتثبتتْ عيناي على لوحةٍ كتبها سالم وعلقتها الممرضاتُ فوق سريره، تقول: ''أنا عندي السرطان.. ولكني أنا لستُ عنده.. I have cancer but cancer doesn't have me''.. واه!
سألتُ الطبيبَ عن حالةِ سالم، فقال لي ببرودٍ: ''لن يعيشَ إلا أيّاما''. فهبطـَتْ الأرضُ من تحت قدَمَي.. وتداركتُ: ''بل سيُخلـّد طويلاً في عالمٍ أجمل.. إن شاء الله''.
عدتُ لسالم، وسألته إن كان يريد شيئاً، فردّ علي بصوتٍ بجرس ملائكي: - رمضان كريم.. لكم ولِ.. أبي!
وأترككم، سائلا اللهَ لكم التوفيقَ، مع موضوع ''نقاش الجمعة'': بمناسبةِ قدوم الشهر الروحاني، هل تعتقدون أن الإغناءَ الروحي له علاقةٌ مباشرةٌ بالإغناءِ الذهني.. أم لا؟