مقتطفات الجمعة 145
سنة النشر : 10/07/2009
الصحيفة : الاقتصادية
نُقدم عزاءَنا الراضي بقضاءِ الله، في وفاة أخ معالي الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي، خالد بن عبد الرحمن القصيبي. ونسأل لأهلِهِ وذويهِ الصبرَ والاحتسابَ والدعاءَ والعملَ من أجله.. اللّهمّ إن رحمتـَك تسَعُ السمواتِ والأرضَ، فاشمله برحمتِكَ وعفوكَ، وأسكنه فراديسَك التي وعدتَ بها عبادَك المؤمنين.
رأي الجمعة: ما هي الإنسانية؟ هي الأصلُ والجوهرُ للمعنى الإنساني ذاته، إدراكاً، وعاطفةً، وممارسةً، وتطبيقاً. إنها خفـْقُ القلبِ الإنساني، للقلبِ الإنساني المقابل، إنها العاطفةُ النبيلة المنقطعة للإنسان لمجرد كونِهِ إنساناً بتشريحِهِ الحَيّ، وصفتِهِ الكائنةِ بكينونتِهِ الإنسانية.. ولا يتغير الإنسانُ إلا عندما تـُلحَقُ به صفة، فيكون الانعكاسُ والظِلّ على الصفةِ لا على الجوهر، فهذا إنسانٌ عربي، وإنسان غربي أو شرقي، وإنسان مسلم، ومسيحي، ولها مداخلُ سلوكية وتعاضدية حددتها الشرائعُ والقوانين. ويبقى أن اللهَ خلق الإنسانَ على أحسن تكوين، وأمرَ الملائكة بالسجود له، وأمَرَ اللهُ الإنسانَ بتعمير الأرض وأن يكون خليفة له عليها، لذا تجد الإنسانَ هو الصفة الكاملة المشمولة بالحبّ الإلهي، فكيف بنا نحن؟ ألا نحب الإنسانَ لمجرد إنسانيته، التي هي صفتُنا الأساس والجوهر، ونرثي له، ونشفق عليه، ونعجب به.. وننقذ حياته؟
وارتضينا مَلِكاً وشعباً أن تكون مملكتنا هي «مملكة الإنسانية»، لأنها تُعني بالإنسان بصفته الأصل والجوهر، الإنسانُ الذي كمّله الله سويّا مكتملا، وملـَّكَهُ على الأرض، وجعل إحياءَ النفس الإنسانيةِ من أمجد الأفعال. عالجتْ المملكة مرضى من كل مكان، بغض النظر عن الإقليم والانتماء الإثـَني، والديني، عالجنا الإنسانَ الذي جعل الخالقُ له المكانة العالية.. وبما أننا نستحق صفة الإنسانية بمشاهد رآها العالمُ، وكلفتنا الملايين، فلم نكن إلا فخورين أننا نقدم للإنسانية خيراً عميما، لا لإثباتٍ مظهري، بل كمبدأٍ وإيمانٍ قبل ذلك، فالأعمالُ أثبتت الصفة لا الكلام المُرسل ولا الشعاراتُ الفقاعية. ولكن» الأقربون أولى بالمعروف».. وهنا سأعود إلى مريضتنا عائشة.
لم نواجه مشاكلَ في قبول المرضى من غير السعوديين، فهي بأوامر ملكية، لأنها حالات معقدة ومعدودة، ولأنها شأن دولي أيضا، فتمَّ من هذا الجزء من الصورة اكتمالُ المغزى الإنساني، ولكن هذا الحال لم يطبقه مسؤولون مؤتمَنون على عائشة المريضة السعودية التي تتلقى الصدمات المهولة، مع عائلتها، صدماتٌ هي الموتُ معلقا كسيف إقليدس على الرقاب - وعائشة لا نقدمها كموضوعٍ فرديٍّ وإنما كرمزٍ شاهق لمعاناة مثلها من المرضى. وكنت أتوقع أن هناك توضيحا عند الصحة، ولكن لم يثبت أي شيء حتى كتابة هذه السطور، فقد امتلأ بريدي ومكتبي برسائل تشكو من حالاتٍ مشابهةٍ، بل إن شاباً يعمل في مجلس الشورى، جاءني تخنقه عبرته ليس فقط لأن أمّه توفاها الله قبل شهور، بل لشيءٍ يعتمل كالأتون الملتهب في قلبِه من سوء معاملة تلقاها في المكتب الصحي السعودي في البلد الذي كانت فيه أمه.. ولم يُشـْفَ من هذا الشعور حتى الآن.. «قتلوا أمي»، قال لي - ولكيلا نتجاوز الحقيقة فقد هاتفني مسؤولٌ من الوزارة، ووعدني أولا أن ينظر في ملف عائشة لكونه في نيويورك وليس واشنطن، ثم عاد لي وقال إن الصحة تعدّ رداً حول الموضوع، وتنفستُ الصعداءَ لأني أتمنى أن أنقلَ هذا الهمَ من قلبي وضميري وصحوي ومنامي، لهم، فهم المسؤولون وهم المحاسَبون .. لا أنا. ولكن لم يظهر شيء.
وحدَث تطورٌ لموضوع عائشة. أمرتْ وزارة الصحة بإرجاعها من فلوريدا حيث تتلقى العلاج في «مايو كلينك»، وعلاجها لم يكتمل، ولم يتفضل أحدٌ، مشكورا وعلى رأسنا، أن يهاتف المريضة من الملحقية الصحية، أو أحدا من أهلها، وهذا أقل واجبات عملهم، وكأن الحالات مجرد أوراق معاملات تبدأ وتـُطوَى، ليس إلا. أو أنهم لا يلاقونهم حين يتصلوا بهم بالتعامل الدَمِث، أو لا يردّون عليهم من أصلِهِ. إني أصلـّي وأبتهل لربّ العالمين أن تنتشر ثقافةٌ بين الموظفين والمسؤولين أنهم يعملون عند الناس، ولهذا يتقاضون رواتبهم، وليس الناس هم الذين يجب أن يحفوا وراءهم. لقد استرسلتُ ونسيت أن أقول لكم إن شيئا طرأ على موضوع عائشة، ولا أدري إن كان هذا أفرحني أم غمّني.. فإلى المقتطف التالي.
جاءتني رسالةُ من شقيق عائشة، سلمان الخالدي يقول من عرضها:» وصلتني هذه الرسالة من مستشفى ألماني يقولون إنهم مستعدون لعلاج شقيقتي ( والرسالةُ أرسلها لي)، وإنهم سيقدمونَ لها العلاجَ الكيماوي (وهو باهظُ كما تعرفون) مجّاناً(!)، والسكنَ والتأشيرة والتنقل، وأن يتحمل هو الباقي من التنويم وأجور مواعيد الأطباء.. ثم يُردِف: «انظر ماذا يعمل الغرب؟» ولا أريد إكمال الرسالة فبقيتها عتبٌ وزوغانٌ من فرط الألم. وهي مناسبة أن نساهم لسلمان الخالدي بما نستطيع من مساعدةٍ ماديةٍ بعد أن أفنى كل ما يملك من أجل أخته، ولم تعد تقرضه البنوك فقد استهلكها كلها.
مرضى لجأوا للكنائس في أمريكا، ومرضى تعالجهم دولةٌ غربية، فأسألكم من الذي يحاول تلطيخ جدارَنا الإنسانيَّ الناصع؟ .. لن يصعبَ عليكم الجواب.
في أمان الله..