مقتطفات الجمعة 134

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
وخروجا نوعيا وليس أساسيا عن طريقتنا المعتادة فإني كنت أخيرا في مصر وكانت مشاهداتي وتجاربي وانطباعاتي كفيلة بأن أخصص مقتطفات اليوم على الشأن المصري. 
 
كان دخولي القاهرة عبر مطارها آمنا هذه المرة، وباشر خاطري: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين". كان المطار سهلا منسابا نظيفا خاليا من العوائق والمصادات البشرية، وعلى غير العادة لم تستغرق إجراءات خروجي للهواء الطلق إلا عدة دقائق (الهواء الطلق هنا كلمة مجازية، فالقاهرة نسيت كيف كان الهواء!).
 
في مصر الآن الحديث هو الانتخابات، فالقاهرة والحواضر والنجوع (لأن مجريات زيارتي تطلبت أن أزور مدنا ونجوعا في الجمهورية) وكانت الآراء كلها متشابهة حتى في الاختلاف. هناك انزعاج عام مما جرى من فوضى وأعمال بدائية في المواجهة والصراع والتقابل الجسدي بين خطري الشوارع، وتسمع قصصا بين الحقيقة والخيال عن العنف الذي خيم ثقيلا على الانتخابات. كتب سيد عبد المعاطي في جريدة "الوفد" 27 تشرين الثاني (نوفمبر) في عموده " نقطة ساخنة": "ربما يكون الحزب الوطني قد ربح عددا من مقاعد البرلمان بالتزوير الفاضح، لكن من المؤكد أن الحزب فقد شرعيته، وأهال التراب على الحياة السياسية برمتها". كلام من العيار الثقيل.. ولكن عندما تلاحظ دخانا ثقيلا، فإن هذا يدلك أن هناك شيئا خاطئا.. ولو كان خفيفا.. والخفيف مع الزمن يكون ثقيلا!
 
ويكتب السيد أسامة أنور عكاشة في جريدة "الوفد" 27 تشرين الثاني (نوفمبر) مقالا ردحيا تحت عنوان واسلمي يا مصر! مصدرالقدح أنه كال على رؤوس الخليجيين كل أسباب فساد الذوق المصري في الفكر والفن والسلوك، فهو يقول في فقرة من مقال طويل كله من هذا الردح المرسل: " يأتي المصري العامل في أحد "بلدانهم!" مرتديا الدشداشة حاملا جهاز كاسيت يدير عليه شرائط الناعقين والزاعقين ( أي مطربي الخليج، والمحاضرات الدينية) متباهيا أنه كان هناك حيث أموال النفط الطافح على الأذواق تصنع من خيالات المآتة والأمعات (وانظره كيف يصف فئة من مواطنيه) زكائب آدمية تمشي على قدمين، حتى قضت أسراب الجراد البدوي (يعني ثقافتنا يحملها الجراد المصري.. أي أهله وناسه!) على الأخضر واليابس في أرض مصر، وأصبحت صحراء قاحلة ليس من حيث الزرع، فما زال النيل يجري، والحقول مخضرة .. ولكن ما تصحر وأقحل وأقفر هو الروح.. هو الذوق!" ولن ألتفت لما قاله هذا الكاتب الرزين عننا ( فلم أكن أعلم أن لنا هذا التأثير الهائل على مصر العظيمة) كل مصري وصفه السيد الكاتب بأوضع الصفات، له أن يأخذ المقال ويستوفي حقة بالطريقة النظامية، أو الطريقة الانتخابية..إياها! أما أن مصر كلها خلعت الذوق بسببنا.. فأنا لا أرضى لمصر بهذا الرخص!
 
ونعود إلى قضية الانتخابات، وأجد ملاحظة لا تخفى على المراقب، وهو اكتساح الإخوان المسلمين للمشهد الانتخابي المصري رغم أمرين يحار الفكر المنطقي أمامهما، وهما أنها فئة تعتبر رسميا فئة محظورة، ورغم ذلك تشارك جهارا في الانتخابات، وإن كان تحت غلال رقيق من أقنعة فئات سياسية أخرى.. ثم مدى توغل هذه المنظمة خدميا ولوجستيكيا وجذبا مخططا للنفوس قبل الرؤوس. النتيجة: الشارع يتدين!
 
انزعج التيار اليبرالي واليساري في مصر من فوز الإخوان المسلمين الظاهر، فناحوا على ضياع مصر قبل أن تضيع.. واستدركوا مفردات مثل طالبان والحكم الديني الدكتاتوري.. تنزل "روز اليوسف" في عددها التذكاري للسنة الثمانين من صدورها وكل عناوينها الكبيرة على الغلاف نسيت موضوع الذكرى وركزت على نقد الإخوان المسلمين. وتلك العناوين هي:" مصر إلى أين؟ هل ساعد الله الإخوان؟" ثم " اخترقناها ونشرنا الفضيحة: الجلسات السرية للجماعة المحظورة مع بلطجية الإسكندرية" و " أشرف السعد يعترف من لندن "خدعنا المودعين.. باسم الدين" .. وكأن "روزا" كما يدلعها محبوها، عبرت تماما عما كانت رسالتها طيلة الثمانين عاما الماضية!
 
على كل حال.. ليس الشارع المصري الذي يتجه بقوة إلى التدين بل جميع الشارع العربي على العموم. ومن مقامي الصغير أقول إن كانت بعض الزعامات العربية تخاف وتهول من الموجة الإسلامية خوفا من الغرق بها.. أقول لهم إن كانت الموجة لا ترد.. فلم لا يتعلموا العوم!
 
تنزل المرأة من الأوتوبيس تصرخ، ثم تأخذ حجرا وترمي به راكبا داخل الميكروباص.. وتصف ما عمل لها.. ثم تلتفت للناس قائلة بغضب مضمخ بالدموع: "هو خلاص الستات مش عارفة تعيش تعيش بالبلد ده؟" .. والتفت إلى لافتة تعبر عن ذكاء شعار الإخوان المسلمين: " الإسلام هو الحل!"
 
وفي ميدان مصطفى محمود هناك احتلال فعلي على حديقة الميدان. مئات من السودانييين اللاجئين السودانيين يحتلون الحديقة من أيام احتلالا كاملا، ويعيشون فيها أيامهم ولياليهم.. احتجاجا على انقطاع المعونات عنهم من وكالة الأمم المتحدة التي لها مكتب في المنطقة المجاورة. قماشة مهترئة لفتت نظري معلقة في السور، كتب فيها:"..أينك أيها الإنسان؟".
 
عجوز يحاول أن يقطع الشارع في مسار طريق لا يرحم.. لم يتردد أحمد فتحي الذي يقلني بسيارته قي التوقف، والتوجه للعجوز، وأخذ بيده عبر الشارع.. فجأة وقفت كل السيارات.. قبّـل أحمد فتحي رأس الرجل العجوز.. وعاد.
 
ويقول لي السيد أحمد فتحي إن السودانيين محتلي الحديقة لم يتركهم الناس في رمضان فأعدوا لهم مئات الوجبات الرمضانية يوميا.. كثير من السودانيين كانوا مسيحيين. وكنت سألت أحمد لم فعلت للعجوز ذلك، ولم فعل الناس للسودانيين ذلك بعد أن نسيهم العالم، قال: نحن مصريون، نحن مسلمون، ونحن طيبون"
 
مصريون، مسلمون، وطيبون.. صدق. عظيمة يا مصر!