مقتطفات الجمعة 109
سنة النشر : 01/05/2009
الصحيفة : الاقتصادية
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 109 الاستثنائية هذه، راجيا أن تنال رضاكم..
كيف يجب علينا أن نحل مشاكلنا الكبرى؟ أو بالأحرى كيف يجب أن نصل لطريقة مثلى تكون آلية صحيحة ومطلقة لحل المشاكل، بما أن المشاكل لا يمكن أن تنتهي في لحظة، ولأنها تتوالد في كل لحظة. على مسؤولي الأمة أن يفكرو في ذلك، أو ستحبسنا مصيدة الرمال المتحركة، وعندما ننغرس في الرمال المتحركة يكون الوقت قد صار متأخرا للحركة، بل إن أي حركة ستؤدي إلى غرق أعمق. نرى الآن أن عناوين مشاكلنا الكبرى لم تحل، البطالة لم تحل، والمشاكل الاجتماعية لم تحل، ومسائل البنية التحتية والصيانة لم تحل، ومؤشرات الاقتصاد كالتضخم والانكماش ما زالت فالتة، وما زلنا نسجل تراجعا في ميادين حيوية كالتعليم والإبداع والشفافية وضبط القانون. ليس لأننا أقل قدرة من الأمم الأخرى، ولكن لأن عيوننا مقلوبة فلا نرى ولا نتحدث إلا مع أنفسنا، بينما منطقيا لا بد أن نراقب التيار العالمي، ونضبط إيقاعنا عليه، حتى ننتظم في وتيرته، ونحاول أن نضع قدما قبل أقدام الآخرين متى أمكننا. ولكن ما نرى هو أن الواحد منا متى كان مسؤولا، فيتحرك بحساسية شديدة ضد أي نقد وكأن مع المنصب أخذ العصمة، ومتى كان الواحد منا خارج المنصب قذف المسؤولين بشظايا من نار.. لذا المسؤول إما يتخذ قرارا متعصبا فيخطئ، وخطؤه ليس مجرد كلمة يشطبها على ورقة، ولكن يصيب كامل جسد الأمة بعوارض الوهن والتقصير والتراجع.. أو يتراجع عن الخطأ متى صار الخطأ يهدد إدارته أو وصلت النيران لحواف طاولته، ويكون حينها الوقت متأخرا.. ونشاهد أن الآلية الخاطئة قيد العمل تشع لها قوى التزلف التي تكاد تصير عرفا من الأعراف. إذن: ضبط تروس آلية جديدة هو البداية!
واستكمالا، فإن الذي يضع المعايير الصالحة للأمة يجب أن يكون جادا وصادقا ويضع بنفسه أمثولة التطبيق. فمن متناقضات الأمور أن ننادي بضبط الصرف ونحن في حفل غير منتج بذلنا الملايين أو المئات من الألوف لإقامته، كما أنك تماما لا يجب أن تنادي بتوفير المياه أو الكهرباء وفي بيتك نهر يهدر من المياه أو طاقة كهرباء تـُهدر كافية لإدارة مفاعل ذري. كما أن لا جدوى أن نحارب الفساد، بينما ترى الفساد يجرح عينيك كل يوم، ومنه أيضا ما جرى مجرى الأعراف.. وإن إقامة مهرجان لأننا قبضنا على أمين مستودع تاجر ببعض مخزونه لا يكون حلا بينما الأسود تنخر في الأعلى.. ولن يصدق الناس إلا أنه استقواء على الضعيف وترك الكبير ينهش في رزق ومقدرات الجهاز. إن العدل كما أنه لا يبدأ إلا بالتطبيق على النفس، كذلك فإنه لا يأخذ معناه الحق إن لم يصل للقويّ بقدر مساو تماما كما يصل للصغير. وهذا كله يؤدي إلى قوة تطبيق القانون وتكريس سيادته، وتفعيل جهاز قضائي راق ودقيق ومحكم ويتصل بمرافق المصالح، ومتطلبات العيش، وتغير وقائع الحياة.
كل هذه الأشياء لن تسود وتصير حقيقة نستدل بها للخروج من مشاكلنا إلا إن ساد المنطق، والأهم التعبير عن المنطق. لن يفهم أحد خارج هذه البلاد الاتكاء على كلمة "توجيهات"، وكأن الأمة لا تسير إلا بقدَر التوجيهات، وهي توجيهات تضيق في الأعلى بينما تتعاظم المسؤوليات وتتفرع. إنه من غير المنطق شيوع غير المنطق. وهذا عامل هدام أول في استقامة أمور الدولة أن يكون غير المنطقي يقال في الجموع والمناسبات في الصحافة والإعلام ، ثم لا يستهجن، بينما نعرف أنه غير قابل لا للتصديق عقلا، ولا هو من الإمكانيات للقدرة البشرية. يقف موظف الصادر والوارد متى ما حقق سرعة أكثر في بعث ورقة ليقول إنه بفضل توجيهات الوزير حققنا ذلك.. هذا الواقع الذي لا يمكن أن يكون حقيقة غير أنه يكبل المنطق السوي يكون عصا ثخينة ضد الفهم العام واتخاذ قياس الأداء.. كما أنه كما أشرنا يؤكد قبول العصمة.. والعصمة ليست من صفات البشر.. ولا يجب أن تكون.
إن الأمة ليست مجرد ملايين من الأنفاس، ولكنها ملايين من العقول.. وهي قوى متى ما اجتمعت وسخرت تقلع الأمة من مهابطها لتسنمها الذرا وهذا أكيد. لم تتقدم دول الشرق إلا لما نفضت حصار العقول.. وشاع إعمال عقول الأمة. فالهند تقدمت الآن وتتقدم وتسجل نهوضا (مخيفا) لأن الأدمغة صارت تعمل ولا توجه فقط، وكذلك في ماليزيا، وقبل في اليابان وفي كوريا، ولما تهاوت الشيوعية في الصين نهضت أمة كاملة من العقول جاهزة لغزو الأرض، وقد بدأت. إن حصر التفكير فقط في مسؤولي الخط الأول، ثم يكون الباقي حتى لو أنجز مجرد توجيهات تكريس لتقييد وحود العقول البناءة وهي بالملايين، وبعضها ـ آسف، وهي حقيقة - قد تكون أكبر من عقول أكثر من مسؤول أو مدير مجتمعة. حقيقة حياة. لماذا تكون القرارات فردية أو في لجان ضيقة؟ لماذ لا يكون البحث عن الحلول - وليس القرار - فيه توسيع من المساحة لتعامل مئات العقول؟ ليس عن طريق توسيع الاستشارة المباشرة قط، ولكن عن طريق الاستبيانات الكبرى.. دفع كامل الأمة للتفكير أولا، ثم رفع ثقل وجسامة المسؤولية عن نتائج القرار لو ثبت أن القرار ولّد أخطاء.. لأن الجموع شاركت في إبداء الرأي. إن تهميش ملايين العقول.. ليس معقولا!
لم يعد مقبولا أبدا.. أن يكون مسؤولو الأجهزة الرسمية الكبار من الذين لا يعترفون أن الشباب هم القادمون.. ومن لم يدخل عالم الرقم الإلكتروني. لم يعد العالم كما كان.. لذا لا يجب أن يكون المسؤول من عصر خارج العصر.. مهما كان عقله ووزنه.