مقتطفات الجمعة 99

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 99 ، عسى أن تنال رضاكم.
 
حضرت جلسة واحدة من جلسات الحوار الوطني الذي أقيم في مدينة الظهران عن مجالات العمل والتوظيف، التي بدأت أعمالها الإثنين المنصرم، وبقيت حتى يوم الأربعاء. ولا شك أن المسؤولين عن مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني يبذلون جهدا محمودا ومشكورا. ولا أخفيكم، وكيف يمكني أن أخفي عنكم شيئا وأنا أكتبه وكتبته، وهو أني لم أكن في البداية من المتحمسين لما آلت إليه جلسات الحوار الأولى خصوصا تلك التي ناقشت موضوع الفئات الاجتماعية والمذاهب، وقلت إنها فتحت صندوقا مكتوما ومظلما حبس الناس فيه لزمان فروقاتهم، قد لا يكون رغبة، ولكن لكي تجري أمور الحياة والمعاش، ولما فتح الصندوق، خرجت عواصف وأدخنة نقاش لم نسمع به أو عنه من قبل، إلا ما يدور وراء الجدران وفي الحلقات الضيقة وراء السماع العام، ولم يُحـَلّ شيءٌ بل زاد هذا المنجنيق رجما للحجارة في جدار الأمة.. ربما قد يثمر في النهاية بعد عمر طويل، ولكن أعطني الصبر، هذا إن لم يسبقه أشياء لا تعود تعطي للصبر أي داع. ولكن لما بدأ الحوارُ يمس الحياة الواقعية والقابلة للتطبيق وإيجاد الحلول، لأنها أشياء ملموسة لمس المادة، ولأنها مطواعة كما يتشكل الفخار بيد الصانع الفنان.. هنا يقول الواحد منا – أو من هم يحملون ذات الرأي - أن الحوارَ تلمس الطريق الصحيح، ثم سار عليه، وبالتالي لا ننتقد أبدا الهنات السابقة ولكنها طريق يجب أن نمشي عليه للوصول إلى الساحة الرئيسة، هي الضريبة التي ندفعها لكي نعفي أنفسنا من الآلام الكبرى، وهي المراحل التي يمر بها أي كائن كي يصل مرحلة النضج.. وفي الظهران تجلى النضج بمعالجة الموضوع المهم عن فرص العمل، وكان في المنطقة في ذات الوقت مؤتمرات أخرى عن الجودة، وعن المشاريع، ولكن الصغار الذين لا يجدون أعمالا لا تهمهم أن تعدهم بأجمل شاطئ وهم غرقى وسط اللجة.. أقول لكم إن المهمة الأولى لجلسات الحوار الأخيرة، هي رمي الطوف للغريق كي يتعلق.. أو بصورة أدق، تعريف الآخرين من رسميين وقطاع خاص كيف يرمون الطوقَ للغريق.
 
إذن بدأ الحوار الوطني بالفعل يتلمس الهموم الحياتية للناس، وما هي هذه الهموم غير ما يكتنف الرزق والتعليم والصحة، إن توافر هذه الخدمات للمواطنين حقا واستحقاقا وبكل ما يمكن أن تجود بها الدولة من إمكانيات، تتيح للمواطنة الحقة أن تنضج وتكبر، ويصير حبّ الوطن في القلب مكين لأن الجسد لم يعد يمرض، ولأن العقل يجد طرق التعليم، ولأن وسيلة الحياة الأولى وهي الرزق متاحة لمن أراد حقا أن يعمل وينتج، وهنا يكون الوطنُ محبوبا فارقا عن المقارنة بالأوطان الأخرى.. عدم إتاحة هذا الأمور البالغة الحيوية بيسر وعدل سيولد الغضبَ، والغضبُ سيفرز النقمة. والغضب سماد شجرة زقومية سريعة التورق وطرح الثمار المتفجرة، والنقمة هي الغذاء يجري في نسغ الشجرة الزقومية.. شجرة اسمها الانتقام، وحصل لكثير من الدول في التاريخ وفي الحاضر. هنا يعمل مركز الحوار متلمسا هذه الحقيقة، فلم يبق إلا الصحة الآن لفتح ملفاتها الكبرى، وكان هذا في خاطري، وإذا بالصديق النابه الأستاذ محمد بن عبد الله الشويعر مدير إدارة الدراسات في المركز يسبقني متمنيا أن تكون الصحة هي موضوع الحوار المقبل، لا أدري لماذا قال لي قلبي إن أمنية الأخ الشويعر تتعدى مجرد الأماني!
 
أطلت التحديق في الرجل الذي لا يكاد يرى ولا يسمع، وعليه هدوء الزمن، ووقار الحكماء.. ولا ترى الشفاه تنفرج إلا عن ابتسامة مرسومة، وحضور جم الأدب لدرجة التواري.. واسترجعت مقالا ضافيا قديما بذاكرتي للدكتور عبد الرحمن الشبيلي ألذي رسم للرجل شخصية لا تسعها حدود رجل واحد.. وأطلت النظر، وكنت قد شددت على يده بحرارة، هل هذا هو الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين، الذي سمعت عنه وقرأت، وأكد كل ذلك المقال المنقطع عن الرجل للدكتور الشبيلي.. "يا رجل إفرك عينيك جيدا".. ولكنه هو، حكيم من حكماء الأمة، بل خبير من خبرائها القانونيين الدستوريين، ولا أذكر صفة الدستورية كمزاج لغوي أو صبغة لفظية، لأنك قد تستغرب إن لم تكن تعلم كما أخبرني معجب آخر هو الأخ محمد الزامل أنه سوربوني، لذا فالفرنسية لغة مرجعية لديه، وكما قال الدكتور الشبيلي فهو يعرف الإنجليزية، وما قام به من أدوار أكبر من أن تسعها نبذة تاريخ شخص واحد مهما كبر. هذا الرجل الصامت، المفارقة أنه يرأس مركز الحوار الذي عماده الأوحد الكلام، أي الحوار إن شئت، ربما هي الحكمة، لأنه يصمت كي يتكلم الآخرون. ولكن حاذر فإن صمتَ الكبار الحكماءِ ليس صمتا، بل تأملا عميقا، وربطا استنتاجيا ذهنيا يتسلح بسـَكِينة المنطق. وهو رجل زاهد في زمن لم يعد للزهدِ لا معنى، ولا احتراما.. أخي محمد يقول إن الشيخ كان يوقف أي سيارة – حتى وانيت - ليصل إلى مقره وهو وزير.. وأكد الشبيلي ذلك.. وسامحهما الله فقد خرجت أترقب إن كان سيأخذ سيارة أجرة إلى الرياض. رجل عظيم لا يريد أن يعلم الناس عنه، بل يفعل كل ما بإمكانه أن يبقى في ظله الصغير يراقب الحشد الكبير.. ولكن ما حيلتي؟ من يصد موجة تسونامية من الإعجاب!
 
وخبرٌ أخير، مع أني كدت أقصر مقتطفات اليوم على دورة الحوار الوطني الأخيرة.. ولكن الموضوع شيق وسأتحدث عنه قليلا، وأعدكم أن أعود إليه بوقت متاح، وهو مقال خرج في "التايمز" اللندنية وعلى صفحتها الأولى في 21 من أيار (مايو) الجاري بعنوان:" آسيا تهدد بتسديد ضربة لإزاحة الجامعات البريطانية أعلى القائمة".. والمقال يحذر من أن الجامعات الآسيوية وفي أقل من عقد من الزمن ستتعدى الجامعات الإنجليزية والأوروبية إن لم تحسن الأخيرة من أدائها ومناهجها، ونحن من قارة آسيا، ولكن المقال، لسبب غير معقول! لم يكن يقصد جامعاتنا، وإنما حدد الجامعات الصينية والهندية. وهناك جانب مريح، وهو إذا كانت الجامعات الأوروبية متأخرة.. فعلى مقولة الشوام: ما في حدا أحسن من حدا!
 
عجبتُ لمن يبكي على عيب غيرهِ دموعاً، ولا يبكي على عيبهِ دَمـَا!
 
مع السلامة.‏