مقتطفات الجمعة 93
سنة النشر : 01/05/2009
الصحيفة : الاقتصادية
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 93 ، أرجو أن تنال رضاكم.
في جريدة القرن الجيبوتية عدد الإثنين 25 أيار (مايو)، كان الخبرُ الأول في الصفحة الأولى خبراً أفرح البلادَ والعباد، فقد افتتح رئيس الجمهورية مركزاً للكلى، وأكد أن هذا المركز لن يكون فقط كافياً لمرضى البلاد، بل سيسعف بعض مرضى الدول المجاورة. أما من تبرع لإنشاء المركز، فهو الأميرُ سلطان بن عبد العزيز، وأما من صمم المركز وأشرف على تنفيذه فهي إدارة التشغيل والصيانة في الإدراة العامة للخدمات الطبية للقوات المسلحة السعودية. هذا المشروع لن ينساه أهلُ جيبوتي، لأنهم سيلمسون خدماته، وسيرون نتائجه كل يوم واقعا واستخداما، وسيبقى اسم الملكة بأعينهم دائما نبيلا وجميلا. الدرس العملي والدبلوماسي هنا ( فوق طبيعته الإنسانية الأكيدة) هو ألا تذهب المساعداتُ الخارجية نقداً لأصحاب السلطة، فكثير من ظروف ٍمسجلةٍ تثبتُ إساءة َاستخدام هذه الأموال، فلا ينفعوننا، ولا ينتفعُ ناسُ تلك البلدان بها، بل يتحول أثرُها سلباً على سمعة المملكة حين يظن ناس أنها مساعداتٌ للسلطةِ وليست لهم. مشاريع المساعدة الخارجية حين نشرف على تنفيذها، وتخصيص مكتب تكون مهمته تصميم وتنفيذ ومتابعة المشاريع الخارجية ستجعلها تصل لأهدافها المرتجاة لخدمة الشعوبٍ الصديقةٍ، فيرتبط اسم بلادنا وثيقا بالهموم الأولى، كالصحة والتعليم والتجهيز التحتي، وهي مشاريعٌ معمرةٌ تـُبقي اسمَنا منحوتاً في صخر ذاكرة الناس ولامعاً، بينما طبيعة الأموال النقدية التبخّر السريع فيتبخـّر الاسمُ مع هبّةِ هواء.. أو يعطـِّنهُ فسادُ الهواء!
المقابلة التي أجرتها الإخبارية مع الأمير عبد العزيز بن سلمان عن برنامج زراعة الكلى كان موفقا. المذيع تألق في تلبّسه لموضوع النقاش، وبرز الأميرُ الشابُ بسيط الإلقاء والمظهر، عميق القلب ومباشر التأثير. الأميرُ كان مجرد إنسان عطوف كما بدا للناس، ولو كان البرنامجُ غربياً لقلنا إن الأميرَ تعرض لتطبيق دراسة سيكولوجية إعلامية في التأثير على الجمهور. ولكن ليس هنا. هنا ما زالت القلوب هي التي تحكم فتصدق ما يخرج من القلب، وتعاف ما يصدر للتزلف والبهرجة وبخور الألفاظ. لقد كان الأميرُ يتحدث بأمرٍ يشعل ضميرَه ويحس به كما يكون المرءُ حين تلتف حياته على أملٍ يتمنى أن يصل به إلى أعلى ما يمكنه. ومرضى الفشل الكلوي النهائي حتى تعرف، مخيّرون إما بالتسمم حتى الموت، وإما بالغسيل الدموي أو البريتوني مستعبدين للأجهزة مكانيا ونفسيا، مع اختلالٍ شديد بجودة الحياة.. أو استزراع كلية من قريب، أو متبرع حي، أو من ميّتٍ دماغيا. إنهم الناسُ المعلقون بين برزخ الحياة والموت، وهذا ما يشعر به الأميرُ، وما شعرَ به مذيع الحلقة.. وما وصل إلى الناس!
"يا خراشي اتق الله" مقال الكاتب محمد عبد الواحد في جريدة (اليوم) بتاريخ الأول من الجاري، ويشن فيه هجوما صريحا على برنامج المساكن الذي رفعت حملته مصلحة التقاعد، وهو يدعونا كقراء إلى: "الاطلاع على جدول قروض مصلحة التقاعد «برنامج مساكن» والمنشور باستحياء في الطرف الأخير من الصفحة الثانية من عدد هذه الصحيفة ليوم أمس (جريدة اليوم) وبحروف لا تكاد ترى.. ثم انتقلوا بعد ذلك إلى الصفحة الأولى لتشهدوا مانشتا فرائحيا يقول «برنامج مساكن يبدأ اليوم صرف ملياري ريال» ولكن العنوان المفرح هذا لم يقل إن هذه القروض بفوائد تصل إلى الضعف!".. ولم يكتف، ليعاود الهجوم في مقالته المنشورة في الجريدة ذاتها يوم أمس ويضيف أنهم ـ أي المصلحة - "يختبرون قدرتهم على التضليل والتحايل لإغراق أكبر مجموعة من الموظفين في الديون المركبة ذات الفائدة الفاحشة(!)..كلام كبير يا أستاذ، ولو كان الوضعُ بالفعل ربوياً، فهذا لوحده نحتاج فيه إلى طاقة كبرى: تقوى الله!
وفي جريدة "الوطن" كتب الدكتور علي سعد الموسى بتاريخ الثالث من الجاري مقالا بعنوان:" قرض مساكن: قبل أن يتحول الشعبُ إلى ضحية" فهو في الموضوع ذاته يقطع ميلا آخر، فيضرب مثلا واقعيا رواه له أحد المواطنين الذي بدأ طلبه بيوم ثم "نفض يده" منه في اليوم التالي، لأنه اكتشف أن مصلحة معاشات التقاعد مجرد "وسيط وحامل أوراق" لأحد البنوك الكبرى الذي يتولى بنفسه عملية التمويل ضمن الشروط "البنكية"، ويؤكد الموسى أنه يعرف أن هذه الشروط مجحفة لأن: "بنوكنا تتصدر بنوك الدنيا بأسرها في نسبة العوائد المرتفعة على القرض"، ويقول بسخريةٍ لامزةٍ:" إنه استحى أن يسميها فائدة فتحايل باللغة مثلما هي البنوك تتحايل(!)". ويضرب مثلا مفزعا، كما روى له المواطن، بأنه إذا أخذ قرضا بقيمة بقيمة 600 ألف ريال، فإنه يتوجب عليه أن يدفع فوائد بعد خمسة وعشرين عاما 800 ألف ريال ( طبعا من غير مبلغ أصل القرض). والموسى لا يهدأ، بل يوظف عاطفته المتقدة وأسلوبه القوي بمشهديةٍ شديدة التحذير وبقالب الوعيد، حين يقول:"هذه القروض الضخمة، بفوائدها الأضخم، ستحيلُ سوادَ الشعب إلى جيوش من المديونين المفلسين، ستأخذ رواتبَهم حطبا وهم على رأس العمل، وسترميهم بعد التقاعد وستطحن عظامهم ورفاتهم في وجوه ورثتهم لمصلحة البنوك.."، نجح الموسى بتصوير سيناريو شيلوكي- دراكيولي- ومذبحي، فانتشرت حبيباتُ المسام في كل جسدي رعبا وهولا.. فإما أن صندوق التقاعد سكنته أرواح مصاصي الدماء.. أو أن السيد الموسى يعاني من ظاهرة الكتابة وهو نائمٌ يعاني كابوسا مفزعا!
طيب, وهل الناس أبرياء؟ هل كلهم من الملائكة؟ أم يبدو أن بيننا أيضا من سكنتهم روح دراكيولا الظلام فلم يعد يشبع إلا من دم الناس وقوتهم.. أم أن سوق الأسهم طوّرت حالاتٍ بشرية طبيعية إلى نفسيات تقتات على مصّ كل سائل حي في حياة الناس؟ ظهرت الصحفُ بنبأ إدانة اثنين من المتعاملين بالأسهم مع وسيطي تداول لمخالفتهما أنظمة سوق المال لتحايلهم بعمليات غير مشروعة عظـّمت مكاسبَهم، وألزموا بدفع أرباحهم ومنعهم من العمل في الشركات لمدة ثلاث سنوات. ونقول: جيد ما قامت به هيئة المال، ولكن نرجو من أعمق أمانينا ألا تـُرمى المصائدُ على بغاثِ الطير، والكواسرُ تبقى طليقة في أجواز السماء!
مع السلامة..