مقتطفات الجمعة 88

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 88
 
.. لا، ليس الوقت مناسبا كي نفقد الأستاذ حمد القاضي، ولا الظرفُ ملائما.. الوضع الخطأ في الظرف الخطأ. ومن مكاني الصغير، ومن واقع حريتي الشخصية في التعبير، أراني ضد قرار ابتعاد حمد القاضي عن المجلة العربية. شيء جميل أن تُكتب له خطاباتُ الوداع، وغير جميلٍ أن نقبل أي قرار لا يناسبنا- ولو باعتقادنا على الأقل- ثم نكتفي بخطابات وقصائد تمجّد من ذهب، ولا نسأل السؤال الأهم: هل نحن راضون أم لا عن حالة الذهاب؟ حتى لو كنت ضد أن يخرج شخص من مكان يناسبه وضعا وتفصيلا ونتيجة، فأخذت يراعك لتخط له وداعا جميلا، رغم نيّتك السليمة، وحبك الخالص، إلا أنك كرست قيام القرار كحقيقة مضت وسرت.. وقـَبـَلت. الأستاذ حمد القاضي رجل الإعلام والمشتغل بالصنعة الفكرية بالبلاد الذي يقبله كل الناس باختلاف مشاربهم، ونظرياتهم، وتوجهاتهم، وتميز القاضي أنه يبث الفكر والرأي، ويفتح المجلة لكل الأفكار، ولكنه لا يتبنى النظرية، ولا ينحاز لتيار.. إنه استشراف فكري فيه الحياد والمواءمة، وهما صفتان لا نتعلمهما في المدارس، ولا نتقنهما في الوظيفة الرسمية إنهما ببساطة حتميةٍ مثل الهبة التي تولد مع الإنسان.. أو لا تولد. القاضي من نساك الفكر، وليس من حراسه ولا مقاتليه ولا يرفع سلاحا للدفاع أيا كان أو للهجوم.. كائنٌ ثقافي متصالح مع قلبه وعقله، في سمتٍ سلوكي يكاد أن يكون خطا هندسيا من نقطة الأدب إلى نقطة التهذيب وبينهما خبرة فكر، وتجربة مهنة إعلام..
 
في بلدنا الآن تتصارع الرؤى، وتتحارب النظريات، وتقسو الأقلام، وتتنافس المدارس بطرق مشروعة وغير مشروعة، وتُصدَم الذائقة ُالعامة التي هي بحاجة لمن يرفعها ويهذب عواطفها تمهيدا لنقلها، لا الصدام والتأجيج. حمد القاضي يغيب في الوقت الخطأ.. فالفكر قارب يكاد أن يتوه في موج الصراع في مشهدنا الثقافي.. إن أردت أن تضر القاربَ الضررَ القاصم.. فببساطة: أطفئ المنارة التي ترشده لساحل الرسو الآمن.
 
العالم يتجه إلى مساحات من الحرية في الفكر، وهي سمة الفكر الحديث التي تصبغ العالم، ونحن سجلنا نفسنا مع العالم، وكل يوم يبرز لنا من يناشد للحرية في الرأي ولمساحات الطيف المرحِّب بتنافر الألوان الفكرية.. وبالتالي فإن إدارة أي مؤسسة فكرية لا بد أن تعمل بتأسيس مستقل، ومرن، ومتجدد مع ثوب العصر، وخذ أنجح الإعلام في الدنيا، وبالذات المجلات، تجد أن محور نجاحها، ومقدار اتساع انتشارها هو أنها مؤسسات مستقلة بحد ذاتها، وأشد المطبوعات شحوبا هي التي تدار من كيانات رسمية حكومات كانت أو أحزابا، أو أي كيان يريد أن ينشر مطبوعة وهو يخدم غرضا مختلفا في الأصل.. المجلة العربية كنا - أنا على الأقل - نتصور أنها كيان مستقل، ولكن تعيين السيد وكيل وزارة الثقافة رئيس تحرير لها أيقظ الجميع على حقيقية رسميتها، وتقيدها بالعمل والإجراء الوزاري، فخنق جمالها المستقل، أو الذي حسبناه مستقلا، لأن الاستقلالَ جمالٌ بحد ذاته.. بمفرده. وحتى إن كانت مستقلة جدلاً، فهذا التعيين سلاحٌ مثالي ليبخِّر آخر نقطة اعتقاد بهذا الاستقلال.. السيد الوكيلُ من أكفأ الناس، ولكن مسمى الوظيفة كاف أن يخمد هذه الكفاءة بوسادة الصفة الوظيفية.. وإني أزعم أن هذا من بداهةِ الأشياء.. ولو كان القاضي غادر بإرادته، فيبقى السؤالُ ساريا.. لا يغير شيء.
 
يخطئ الأستاذ حمد القاضي رغم أستاذيته، وارتفاع مقامه عن سفوح مكاني، إن كان ترك طوعا.. ولم يحدد من يأتي بعده، وينظم منهاجا احترافيا للمجلة. وها هي المجلة العربية تذهب إلى مكانٍ نعرفه جميعا في عداد مطبوعات الوزارة.. وأخاف أن ذلك سيطبع كامل حِقبة هذه الوزارة برسمية إعلامنا والتحكم فيه ديوانيا، ولم تجتهد الوزارة حتى في توريته.
 
ما العمل بالقاضي وخبراته وملفات اهتماماته عبر السنوات الطوال؟ هل يُكتفى فقط بقرار توديع.. وإرسال الرسائلَ مخضبة ًبدموع الوداع؟ هذا ما فعلناه.. حتى الآن!
 
كتاب الجمعة: كتابٌ لأهم مفكر اقتصادي خرج في هذا العقد، الاقتصادي الدولي "جوزيف ستجلتز"، الذي كان رئيس الدائرة الاقتصادية في البنك الدولي، وقبل ذلك رئيس دائرة الرئيس كلينتون الاقتصادية، والآن بروفيسور التمويل والاقتصاد في جامعة كولومبيا الأمريكية.. والأهم، أنه الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001م. توّج سموقا علمياً، ونزاهة إنسانية فكشف بكتابه "كيفية جعل العولمة صالحة Making globalization Work" حقيقةً لم يصرح بها مسئولو النظام الاقتصادي الكوني عن العيوب الخطيرة فيه، وبنظام النقد العالمي (خصوصا الدولار- الذي ربطنا ريالـَنا به مصيراً) واختلاط صفاء النظرية الأخلاقية العالمية مع الممارسات والمصالح السياسية والتكتلية.. ويعترف أن الدول الفقيرة التي انضمت للنادي التجاري الدولي ازدادت شعوبها فقرا أثناء سنوات عمله بالبنك الدولي، كما يقول بنصِّه المتصدر:" أثناء سنوات عملي في البنك الدولي، بدأت أفهم تدريجيا لماذا كل هذا السخط في الأرض على العولمة وأجهزتها وأنماط تطبيقاتها، وفهمتُ شيئاً محورياً، وهو أن النظامَ الكوني عبر الأنظمة المحلية يمكن تشغيله بطريق صالح ومفيد وإنمائي، ولكني تيقنتُ أن هذا ليس حتما!". ويقصد أن النظامَ صالحٌ نظرياً ومن شموليةٍ أخلاقيةٍ بضميرٍ اقتصادي كوني، ولكن استغلال القوة والمصالح، والفساد والأنانية في الدول هي التي تجعله يكاد أن يكون معطوبا أو حتى مخرِّبا. لذا صارت العولمة معولا يقع على آخر ما تبقى من لحمٍ على عظام الشعوب التعيسة في العالم الفقير.. أي، معظم العالم!
 
مع السلامة..