مقتطفات الجمعة 81

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 81 ، أرجو أن تنال رضاكم.
 
"النارُ من مستصغر الشرر"، رمادُ جمرةٍ مشتعلة لا تلاحَظ من تفاهة حجمها ترمى في غابةٍ، فإذا الغابة ُبعد زمن أتونٌ من سعير.. فن مقاومة النار ليس مجابهتها عندما تلتهب وتضطرم وتعور، ولكن في مقاومة حصولها في الأصل، وفي حصر حجمها، والتحديد العاجل لجمرة الاشتعال، وخنقها بإقصاء الهواء.. وعندما تشتعل فلا يكون إلا مصيران: ردُّ الفعل في مقاومتِها فيغلبُ رد الفعل السريع على حسن التخطيط، أو، أن تستمرَّ النارُ حتى لا يبقى شيءٌ يغذيها.. وقد أبادت كل شيءٍ حولها. وفي الإدارة العامة التي تتعلق بخدمة الناس، خصوصا الخدمات المصيرية كالصحة والتعليم، بيئات تتهيأ فيها بواعثُ اضطرام النيران، وهو غضب الناس. إن القرارَ الإداري قد يشتعل وإن كان نافعا صحيحا فجمرة السيجارة الضارة تُشعل النارَ، وكذلك برقةُ الكهرباءِ النافعة، ولهذا يُغلـَّفُ سلكُ الكهرباء. كلّ قرارٍ يجب أن يغلف بعازل ضد الاشتعال، هنا تفوق الإداري، واختلاف مهارة وقدرة المسؤولين مصدري القرارات. الذكاءُ في كل قرار أن تـُنزع منه فتيلة الاشتعال، بالترصد واحتواء ما قد يكون من ردود فعل بالحصافة والحكمة. حنكة إدارة القرارات هي قدرة المسؤول للوصول إلى قلوبِ الناس، والمسؤول الذي يصل قلوبَ الناس، ويضع ذلك العازل ضد أن يصعقَ سلكُ الكهرباء، وينزع فتيلَ الإشعال من أي قرار، هو الذي يستطيع أن يمرر قرارَهُ كما يمرّ السكينُ في قالبِ الكعكِ سهلاً رخيـّا.. وبلا جُرح، مهما كان القرارُ، ومهما كانت حِدَّةُ السكين. هذا معياري الأول لقياس تفوق أي مسؤول.. من عدمه.
 
النارُ عمياء، أول من تحرق.. مُشعِلـُها!
 
زرتُ هذا الأسبوع مشروع منارات العطاء في الدمام، الذي يغطي ببرنامجه "إفطار صائم" معظم حواضر المنطقة الشرقية. علبةٍ تُوزَّع مجانا بالآلاف يوميا في ناصيات الطرق الكبرى. وكانت الزيارة من أكبر الدروس التي يتلقاها إنسانٌ مثلي يطالع كثيرا في القاتم من الألوان، ولا يديرُ وجهَهُ نحو أفق الفجر، ومطالع النور. تدخل خيمة مؤقتة وترى فلسفة خطوط الإنتاج بدقةٍ إنسانيةٍ يدوية وموزعة على صفوف وفئات، وبحماس وانكبابٍ فريد، تجربةٌ في تنمية الخط الإنتاجي اليدوي المؤقت يجب أن تسجل في دروس الإدارة. وتعلمتُ درساً آخر، وهو الحافز الغامض اللامادي.. في كل مصنع وفي كل شركة تـُصرف الحوافزُ المادية لمن ينتج أكثر، أو يبيع أكثر، وذلك من أيقونات الإدارة. عشراتُ الأطفال الذين رأيتهم بذلك المنظر المهيب يتحمسون ويتنافسون.. أما الحافزُ، فليس مادياً، فهؤلاء الأطفالُ كلهم متطوعون (تصور!) "بأي حافز بالله يا جماعة توقظون مولـِّداتَ التنافس عندهم".. يضحك الرجالُ الوقورون حولي ويتطلعون إلى.. السماء.
 
وأتعجّب.. كيف نقول إن التطوعَ ثقافة لا يعرفها مجتمعُنا، ثم نجد هذا الكمَّ الهائلَ من المتطوعين الأطفال، صيامٌ في رمضان، بينما من في عمرهم نائمون، أو حول التلفاز، أو الألعاب؟ قلت للشيوخ الأحبابِ حولي: "اليوم علمتموني أن أنفض خوفي من عدم نهوض الأمة، فمئاتُ الوجوه الصبيحة من الأطفال لقنتني درسا من الدروس الكبار.".. وأمةٌ يؤمن شعبها بالتطوع الخيري خليقة أن تتقدم بمضامير الأمم.
 
كل يوم برمضان عندما يتجمع حولك صبيةٌ منيرون في رؤوس الطرق، لا تختلط عليك المسائل فتحسبهم من أولئك الذين رقـّعوا شوارعنا بالتسول، ولكنهم الطرف المناقض الأبهى والأسمى، فهم يوزعون عليك إفطارك وإفطار كل من تأخر للوصول لبيته حزّة الإفطار.. تطوعا للهِ من أجلك! وندعو لآخرين وأخريات.. فعندما يتخاطفُ الأولادُ بين السيارات في ذروة حرجٍ مروري تكون هناك قلوبُ الأمهات والآباء الذين سمحوا لمُهَجـِهـِم من أجل الخير السعي بالشوارع.. والناس هانئون في بيوتهم يفطرون!
 
أعود إلى التقرير الذي كتبته الأستاذة رحمة ذياب في جريدة الحياة، وذُكر في مقتطف من مقتطفات الجمعة السابقة عن استفتاء طالبات "التعليم المطور" بمدرسة الأمير محمد بن فهد بالدمام لتحويلهن للتعليم العام. وما ذكره الخبرُ عن أن البنات أُجبِرن على توقيع طلب أو استمارة لنقلهن إلى التعليم العام. اجتمعتُ مع مدير عام تعليم البنات بالمنطقة الشرقية الدكتور "سمير العمران"، وبحث معي الموضوع، وناولني أتصفح بنفسي الاستمارات التي تحدث عنها التقرير، ورأيت بالفعل استمارة وزعت على البنات، وأكد الدكتورُ "العمران" أنها لغرض استقصائي أولا، وليس هناك إجبار من أي نوع، وأن هذا ينافي المنطق فلو كان إجباريا لما وُزعت الاستماراتُ أصلا، ولكانَ القرارُ أُخذ وتمّ وانتهى. ورأيت في كل استمارة خانة يُطلب من كل طالبة أن تضع بها ملاحظاتها على النقل إلى التعليم العام وفي مدارس أخرى، وبالفعل كانت أكثر الخانات بها شروط وضعتها الطالبات.
 
ما زالت تتقاطر علي رسائل من بنات الثانوية المطورة، وكل واحدة تخاطبني بلقب (بابا نجيب) .. وأعجبتني هذه القدرة الفذة على التعبير، ونقل الأفكار، ورقي صياغة الأسلوب، مما أعاد لي الأملَ مشرقاً بالصِيغ التعليمية التي تجربها وزارة التعليم. ورغم لمسي لحزن كظيم في قلوبهن، ولكن أقول لكل واحدة والله كل واحدة لها في قلبي تعلق شديد، وكأنهن أخوات نورة ابنتي: اتركوا الكبارَ يتصرفون، أما أنتن فاجتهدن أينما كنتن.. أريد أن أباهي بكن العالمين."
 
في هذا الشهر، بأيامه الأخيرة، دعائي أن تحل السكينة على النفوس، وأن يلتقي آباءُ بنات التعليم المطوّر وبكل التهذيب واللياقة اللازمة ليس أمام مسؤول مؤتمَن فقط ولكن كما يتأدب ويحب المسلمُ أخاه المسلم، والمواطنُ مواطنـَه، ويضعون معاً حدا نهائياً لموضوع ما كان يجب أن يكبر في الأصل.. إلا ما تعبأتْ به النفوسُ من وهم الشقةِ والتباعد.. وأن لا تـُربك الفتياتُ الصغيرات أمام سنة من أهم سنوات دراستهن.. والعمل معا على إعداد المدرسة التي انتقلن إليها كي تكون لائقة تماما بما يتطلبه التعليمُ المطوّر، ويُقفل ملفٌ لا يصدر إلا الأذى.. وأن يرى كل منكم وجه ابنته مشرقة بابتسامة الأمل والفرح دائما.
 
وأترككم مودعا مع شعر أعجبني: وآهاً لدهرٍ هدانـي بـعــِجــابِ ومحا فنونَ العلـمِ والآدابِ وأتى بكُتـَّابٍ لو انطلقتْ يدي فيهم، أعادتهم إلى الكُتـّابِ .. أرجو ألا أكون واحداً منهم!
 
مع السلامة..