مقتطفات الجمعة 79

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 79 ، أرجو أن تنال رضاكم..
 
موضوع الجمعة: جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية: شهد تاريخنا السعودي التعليمي فاصلا تاريخيا منيرا في الأسبوع الفائت حين دشنت أكبر سفينة أكاديمية لبلادنا أعدت لتنقلنا إلى بحار العالم، ولتنقل ما وراء بحار الدنيا المتقدم إلينا. المنارة التعليمية التي سيُسلـَّط مجهارُ نورِها إلى مساحات العالم لتضيء لنا المسالك كي تصل سفننا إلى المرافئ عبر القارات، وتصل سفنهم إلينا. إن الجامعة َ فاصلٌ مشهديٌ عقليٌ طرأ نمّى تصورَنا التعليمي والحضاري. لما دشنا الجامعة خلعنا عنا أكوام التهيُّبِ، والقيدَ العقلي، والحصارَ الذهني، والغبارَ الزمني الذي غطى عيونـَنا وأنفسَنا وأثر في مسيرتنا التطويرية. آن لنا أن نقف على تلةٍ بعقول حرة ونتطلع للدنيا، ونفتح لها قلوبنا وحدودنا، كي تفتح لنا قلوبها وحدودها، وهذا سرُّ الأسرار في التفوق العالمي، لن يسير للأمام من يتطلع بمخيلةٍ صغيرة ويتصورُ الكوارثَ والفواجعَ لو جاءنا أحد، أو رحنا لأحد.. مغزى الجامعة دراسة التاريخ الماضي لنسجل شيئا منيرا في التاريخ القادم، لما كان العلـَمُ العربيُ الإسلاميُ يرفرف من منشوريا إلى الأورال كأوسع إمبراطورية في تاريخ الإنسان كان مفتاحُ السرِّ هو المفتاح نفسه الذي وقف الملك يوم افتتاح تأسيس الجامعة وأعلنه. الجامعة لن تقود الألفي طالبة وطالب الذين سيلتحقون بها أجيالا متتابعة، ولكنها كفيلة بأن تقود كل مخيلة الأمة لآفاق معرفية واجتماعية وحضارية طال التوق إليها. ولا مكان سيسع الحمائيين المتخوفين، بل إنه مكان لأصحاب القلوبِ الجسورة، والعقول المنفتحة، لأننا لا نخاف من العالم إن كنا محصنين.. وإن كنا بلا مناعة ولا حصانة فإن هبّةَ هواءٍ كفيلة بأن تطيح بنا. جامعة الملك عبد الله تتعدى الظرف والموقف لتكون رصفا جديدا لمسار أمة!
 
في غرفة الفحص، أنتظر الممرِّضَ الذي سيأخذ قياسَ ضغط الدم، وأقرأ في الجريدة الموضوعة على المنضدة بجانبي برنامج تدشين المرحلة الأولى لجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، وما منعنى من حضوره إلا هذا السببُ الذي يجعلني أنتظر الممرضَ من غير حماسة، لأن عينيَّ تسمرتا بقراءة التقرير، وعلى كلام عريض بسعةِ العالم قاله رجالٌ كبار، أنا متأكد أنهم يعنون ما يقولون، وهذه صفة الكبار الأولى.. والأخيرة!
 
أكد الملكُ عبد الله أنه يريد جامعته منارة من منارات المعرفة في العالم.. إذن هذا حلمٌ كبيرٌ، من رجلٍ كبير، من أجل مستقبل عريض وموعود لأمته، وتحتاج لتنفيذها إلى عقول كبيرة وضمائرَ أكبر.. وهناك سؤالٌ كبير، وهو: لم أوكل العاهلُ مهمة هذه الجامعة الاستثنائية، إلى شركة أرامكو، وليس إلى وزارة التعليم العالي؟ لن أجيب، دعوني في عظمةِ اللحظة..
 
في حينٍ من الزمان عمّت أرامكو فلسفةٌ سمعتها من كبارها، بأنهم لن ينخرطوا في أبحاث أو نشاطات خارج صناعة البترول، فإذا هم والأيامُ تدور وتثبت الحقائقُ نفسَها على رأس أكبر حلمٍ جامعيٍّ في العالم العربي.. وهنا تساؤلٌ طالما راودني، لم لا يتفوق الجميعُ في بلادنا مثل أرامكو ونحن في بلدٍ واحد؟ لن أجيب دعوني في عظمةِ اللحظة.
 
لاحظتم في عنوان المقتطفات كلمة "الفجوة"، اقتبستها من خطاب رجل أرامكو الأول "عبد الله جمعة"، الذي قال في الحفل المهيب أمام العالم: "هناك فجوةٌ معرفيةٌ عميقةٌ ومحزنة تفصل الشعوبَ العربية والإسلامية عن ركبِ العالمية المعاصرة" وما رأيت أدقّ من وصف "فجوةٍ محزنة"، والرجلُ إذن لا يمتلك ناصية التعبير وحسب، ولكنه يحمل الخيالَ الفسيحَ الذي جعله يتصور فجوةً عميقةً بيننا وبين العالم.. ثم ملأها بالحزن. ولكن الحزنُ لم يكن بكاءً، بل كان مولّدا يعترم ويضجّ في آفاق العالم بأن منارة تشق الأرضَ السعودية ليدور شعاعُ أنوارها في أرجاءِ الكوكب، وهذا ما أصرّ عليه كل من تكلم في الحفل.. إن جامعتنا ستصير عالمية مفتوحة في عالم مفتوح.. إنها بداية ضمنية أخرى لفلسفة واقعية باتساع الأرض نحو نضو تخوفات رسفنا بها لعقود، ودفعنا ثمنها خسائرَ كبيرة، ولم نعد نريد أن ندفع أكثر. جاء الوقتُ، وحانَ الظرفُ، وتلاءمت العناصرُ كي نبدأ رحلة الكسبِ والمعرفة. اتفق الجميعُ على اصطلاحٍ سيحدد الأزمنة َالقادمة، وهو اقتصاد المعرفة، لذا كانت الجامعة للعلوم والتقنية، وهما محركان جباران سيدفعان سفينتنا المعرفية في أوقيانوس تتسابق به عابراتُ المحيطات.
 
الوزيرُ "علي النعيمي"، رجلٌ سيكتبه التاريخ بأحرفٍ سافرةٍ مرتين، مرة كرجل نفط ٍمن الطراز الرفيع، ومرة أخرى كرجل يقود مرحلة تاريخية علمية ستغير تقاليدنا العلمية، وهو تقاطعٌ تاريخيٌ قلما توافر لشخصيةٍ إنسانيةٍ في حياةٍ واحدة، ويقول جملةً لو كانت تعبيرا شاردا فهي من تطاويبِ المنامات، وإن تجلت هدفا واقعيا فنحن نعيش لحظات تجعل رقابنا تتطلع للسماء زهوا بعد أن أمالت أعناقـَنا لزمنٍ الصروفُ.. يقول: "الجامعةُ من أجل الإنسان في كلِّ الأرض". من يصدق أننا ملكنا هذا الخيالَ والقدرة والعزمَ والفتح الاستشرافي الكوني المعرفي؟.. لكنه يحصل!
 
شيءٌ طريفٌ وذو دلالة لاحظته بخطاب السيد "نظمي النصر"، المكلف بقيادة الجامعة الأمل.. يبدو أن الصحيفة التي قرأتُ فيها التقريرَ أدرجت الخطابَ كما هو ضمن تغطيتها فبان الخطابُ مشكل الكلمات وبعلامات الترقيم بعنايةٍ لغويةٍ مذهلةٍ، والرسالةُ الذكية التي حرص "نظمي النصر" أن يوصلها هي دقته والتزامه المنهجي بدءا بسلامة لغته العربية، وقد اطمأننتُ على الإدارة العليا، فعقلية الرجل مفصلة للتفاصيل الدقيقة في مشروع جبار، يعتني بالخزف الصغير من أجل دقة اكتمال مظهر الصرح المنيف.
 
جاء الممرِّضُ.. ووضع الشريط َالضاغط، وفحص ساعته، ثم قال لي : الضغط ممتاز!