مقتطفات الجمعة 61

سنة النشر : 01/05/2009 الصحيفة : الاقتصادية

 
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة رقم 61 ، أرجو أن تنال رضاكم.
 
قضية الأسبوع: الخطابُ الملكي في مجلس الشورى، وستكرس له فقرات هذه المقتطفات.
 
لم تتعود آذاننا على سماع مثلما قاله عاهل البلاد في مجلس الشورى، ولم نكن نتوقع أن يستخدم كلماتٍ قوية وشاهقة الصراحة والمكاشفة كما أسمع العالمين جهارا.. قال إني أقسو على نفسي نقدا ومساءلة، وقال في بعض مواضع الخطاب إنه يمارس النقد "العنيف"، لأنه يعرف حجم المسؤولية، ومن يعرف حجم المسؤولية يخاف أيضا حجم المساءلة، ومن يخاف السائلَ الأرضي يراجع نفسه تكرارا، فكيف بربـّك من هو مكشوفٌ أمام السماء، يراقبه المحاسب الأعظم على أكبر مسؤولية يقبلها ويتحملها فردٌ بنفسه؟
 
كان الخطابُ قويا ومؤثرا ومزعزِعا لرتابتنا الخطابية، وعلمنا أن الرجلَ الأول ينتقد نفسه، ووسط أجواء حافلة بالسؤدد والسمو ومقادير من المجاملة الهائلة التي تصب في أذنه كل يوم أكثر من أي شخص آخر، يقف دون أن يطلب منه أحد، ودون أن يسائله واحد، ويقول إنه كإنسان كل لحظة قد يتعرض للخطأ. فالعاهلُ تأتيه مثل كل القادة المعلومات من الذين ائتمنهم في مناصبهم، وأن هذه المعلومات قد لا تصل صافية كل الصفاء، ليكون القرارُ صافيا كل الصفاء. وإنه قد يتعرض للحكم الناقص للدقة كما يتعرض أي قيادي يلتف حوله المستشارون في كل مجال وكل علم وكل صناعة..
 
يقف العاهلُ أمامنا ليقول إنه إنسان يتعرض للسير على خطٍ تراه عيون الآخرين بآرائهم، أو يفسرونه بأدوات علومهم.. ولأنه مسؤولٌ عن أمّةٍ بكاملها فهو يرتجف أمام مولاه الأعظم من ثقل المسؤولية، مسؤولية العباد بأرزاقهم وحياتهم وحاضرهم ومستقبلهم وأمنهم.
 
علمنا التاريخُُ أن من كان بهذا الحجم في المقام والمسؤولية إما أن ينقاد لزهو السؤدد والتميز والعلو والوحدة في القمة فيعتقد في نفسه تنزُهاً عن ضعف باقي البشر، وإما أنه أوتي حكمة لم تـُمنح لغيره، أو أنه بصفة الآلهة يسير على الأرض، والأمثلة الأباطرة والطغاة وكل دكتاتور من كل ملةٍ ومن كل مذهبٍ ومن كل أمةٍ وفي كل زمن.. وإما أن يفعل من في معقل السلطة - وما أندر هذا - كما فعل المؤتمَنُ على أمتنا عبد الله بن عبد العزيز أمام الناس ليقول إنه يحاسب نفسه وبعنف.. فإنه قد عظـَّم مقدارَهُ عندنا، وعرّفنا أننا لن نخاف أن يربطنا قرارٌ رسمي بالمكابرة وعناد التفرد، وأننا كشعب الأهمّ في قلبِ العاهل وعقله وضميره، وليس للأنا النافرة مكانٌ في طبعِه وطبيعتِه، ومسلكه وسلوكه..
 
وإذن.. إذا كان قائدنا يدعو للنقد، النقدُ صادقا ومبنيا على الدليل أو الاقتناع المدلل أو المقارَن، وإذا كان يذهب أميالا أكثر من توقعاتنا ويقول إنه ينتقد ذاته بقسوة ويكررها بثبات.. فلم نخاف نحن النقد والانتقاد؟ أليس هو عاهلنا، وبه نقتدي؟
 
إنك تعجب أن من يعتقدون أنهم حماة البلاد أكثر من عاهلها، ومؤتمنون عليها أكثر من أمينها الأول، أول ما يفعلونه هو حجب النقد، فبينما يعتقدون أنهم بهذا يؤيدون ولاءهم لعاهلهم إنما يجدفون ضد تيار مبادئه، وأخلاقياته، وسلوكياته.. وإن وجدنا لهم عذرا في السابق من دافع مقولة إن الحبَّ قد يقود إلى الإساءة إلى من تحب.. فإن العذر والتبرير هذا لم يعد مقبولا، ولن يتقبله أحد. بل إني أذهب وأقول إن من له منصب أو مسؤولية تخوله نشر آراء الناس، وبالذات انتقاداتهم متى جاءت من قلوبهم لا بقصد البلبلة والتشويش وإساءة الأدب، وجرح الذائقة، أو استنهاض الغضب، ويمنعون خروجها فهم يعتبرون من صنفٍ معارض جدا لطبيعة الولاء للبلاد وعاهلها، وأنهم يغردون في سرب وحدهم لحفظ الأجواء لأجنحتهم، حتى لا تكون الأجواءُ مسرحا لكل الأطيار.. لنا كلنا.
 
إن نشر آراء الناس مهما عارضت ما دامت لا تمس الإساءة والتجريم والاتهام، ومدللة بالمنطق والاقتناع أو الرأي المرسل بدلالات الحلول والبدائل، ووضع الإصبع على سبب العِلـّة، ونشر معلوماتهم حول المواضيع العامة في الاقتصاد والتعليم والسياسة والإدارة وإدارة المرافق وتجهيز البُنى ووضع الخطط الحالية والمستقبلية، إنما توسع دائرة الرأي والحكمة وتقلل احتمالات الخطأ التي يخاف أن يقع فيها العاهلُ فتكون سلبا على المواطنين، وتخفف من مدى قسوته في نقد نفسه.. فتوسيع المشاركة بالرأي يقلل من حجم اللوم وضغطه سواء كان اللومُ خارجيا أو نبعَ من داخل أعماق الناس..
 
إن العاهلَ كمنتقدٍ لنفسه وبطريقةٍ وصفها بأنها عنيفة، يشجعنا على أن نحذو حذوه، ليس فقط أن ننتقد خدمات الجهات الرسمية والخاصة أو المسؤولين - وهو حقٌ يُصان متى كان مسؤولا ونافعا - ولكن أيضا بأن ننتقد نحن أولا أنفسنا، ونعنـّفها بالمساءلة قبل أن تخرج شكاوانا وانتقاداتنا. إنها سكة ارتضاها العاهل لنفسه وسنسير وراءه، ولكن ألا يجبرنا أحد على أن نخرج عن أكتاف الطريق..
 
(ربـّما).. قد يكون المنتقدون الصادقون المحبون، ومن يؤيدهم من المسؤولين عن بث الرأي الذين يسمحون للنقد بالخروج العام، هم بعين عاهلنا من أحب المواطنين وأقربهم لقلبهِ.. وعقلهِ.. وضميرِه.