مقتطفات الجمعة 60
سنة النشر : 01/05/2009
الصحيفة : الاقتصادية
أهلا بكم في مقتطفات الجمعة رقم 60 ، أرجو أن تنال رضاكم.
تكشف لي بعد مقالات، ولقاءات تلفزيونية في قناة الرأي أجراها معي الشيخ الصديق محمد العوضي، شيءٌ أسميه "المسكوت عنهم"، فبينما نواجه الإرهاب، ونتصدى لمعالجة تغذية بعض شباب الأمة بالتعصب وحقنهم بالغضب، لا نعرف شيئا عن فئةٍ من شبابنا أخذوا المنحى الآخر المعاكس، وهو الشك في قيم المجتمع من أصله، وتنمو أسئلة في عقولهم محرَّمة عن الإيمان ومسلمات المجتمع، ويخافون أن يسألوها في العلن، وهم يخافون السؤالَ خوفا من اللوم ومن العقاب ومن الرفض.. لذا يغرقون في شكوكهم وآلامهم العقلية، فتنعكس أمراضا عصابية في أنفسهم. وأنا صغيرُ الشأن وجاهلٌ على ضفاف العلم الشرعي، ولكني بالتجربة المثبتة، والمعلنة على أكثر من منصة، عندما أناقش هؤلاء الشباب مرة، مرتين، ثلاثا يعودون أجمل مما نتوقع وأنصع سلوكا، وأروى نفسية، وأرسخ إيمانا.. يا جماعة أسألكم أن تنتبهوا للشباب المختفي في الأعماق.. وحرروا السؤالَ لينطلق من العقول. إني أثق بأن في ديني أجوبة لكل الأسئلة، فلماذا أخاف الأسئلة؟ بل إني أخاف على شبابنا الذين نحبهم من أن يجرفهم الضلال.. وبمساعدة مِن مَن؟.. منا نحن وتعنتنا!
قضية ألأسبوع: نداءٌ موجهٌ لوزارة الشؤون الاجتماعية، أنه لو تـُرك للأفراد، والجمعيات الأهلية المستقلة العملَ الخيري، لقـُضـِيَ على أعدائنا الثلاثة قضاء مبرما، أما أعداؤنا فهم: الفقرُ، المرض، والجريمة. في "الخبر" حديقة عكف عليها ظلام الإهمال وتجمع الهوام، وتركز الأعمال التي يحاربها المجتمع السليم، فإذا هو بعمل جاد من سيدات متطوعات، وبمعونة محمودة من بلدية الخبر، تتحول إلى روض مزهر، وشاهدت كيف امتلأت بالأطفال، وقلت لنفسي، وقلت للجمع حين اخترت كي ألقي كلمة عاجلة: "هؤلاء الأطفال بفضل الله ثم بفضل عملكم، كانوا سيضيعون منا وسيضيعوننا معهم، لولا تداركتموهم ليمارسوا حقهم الطفولي الطبيعي لينمو نموا طبيعيا ومنظما مع عناصر المجتمع.. أقولها بصراحة: لقد أنقذتموهم وأنقذتمونا". وفتيات في الجبيل ينقلن ثقافة كاملة، وشباب في "الخبر" قرروا يوما أن يقوموا بتنظيف دورات مياه الخبر العامة، وأكبرت ذلك وهتفت بيني وبين نفسي: "الله أكبر"، ولم تكتمل فرحتي، أوقفوا لأن لا رخصة ولا مظلة رسمية ينضوون تحتها. يا جماعة ما أمرض تطور العمل الاجتماعي إلا هذه التنظيمات والإجراءات التي تكون فيلا لا نركبه بل يقرر هو الركوب! أطلقوا العملَ الأهلي وسترون كيف سنكون أسعد، وأكثر رفاها، وأقل مشكلات، وسيتضاءل العنف، وتتقلص الجريمة.. وترفرف روح المحبة!
أتوجه في الدعاء إلى حبيبي الراحل الصغير "ناجي الأحمد"، الذي تعرفونه الآن، الذي فتح أمامي بوابات لأرى قلوبَ الناس، قلوبٌ تضيء كالكواكب الدُرية، مثل قلب السيدة أميرة، مديرة مدارس الفكر، التي هاتفتني عدة مرات بحماسة لا تنقطع، وتصر على أن ناجي الأحمد لم يمت، وأنها آلت على نفسها ألا تترك وصيته مجرد كلمات يتداولها الناس، فالسيدة أميرة تقول إن الأمة لم تتفاعل بوحدة صف كما تفاعلت مع قضية ناجي، وإنها وطالباتها سيثبتن ذلك بإقامة أعمال من أجل ذكرى ناجي، وإنهن سيقمن بحملة كبرى تحمل اسم ناجي، وإنها لن تكتفي فقط بجدة، ولن تهدأ حتى تعم أقطار البلاد.. وحتى يكون هناك نظام وقوانين ترشـّد حياة ذوي الاحتياجات في كل مكان، وفي كل مرفق، وفي كل جهة، وعند كل خدمة.
وأما البنت "عائشة حسين الحشاش" الفتاة الكويتية التي حدثتكم عنها في هذه الجريدة بمقال منفصل، والتي ولدت مصابة بالشلل الدماغي الرباعي.. ونفض الطبُ يدَه منها، وأنها ستعيش مفصولة عن الدنيا حركة وإدراكا في غيبوبةِ وعيٍ وهي على قيد الحياة وكان لوالدتها سبيكة الغيص رأي آخر.. إنها كشوفات السماء، غريزة يضعها الإله في قلب الأم .. رفضت الأم كل ما قيل، وصرمت السنوات مع ابنتها تعلمها كل شيء، وتكلمها عن كل شيء.. ودارت بها دولا في العالم بحثا عن علاج، أو مركز تعليم.. ولم تيأس، رغم سلسلةٍ متصلة من معاناة لا يأتي بعدها إلا معاناة.. واجتازتا معا جسرَ العجزات، وعائشة التي لا تستطيع الكلام ولا التحكم في عضلاتها تتقن الآن أربع لغات كتابة وقراءة، وتكتب بالإنجليزية في جريدة كويتية تصدر بالإنجليزية ولها كتاب أنصح بعطف أن تقرأوه بعنوان: "إعاقتي سرّ نجاحي."
ولما كنتُ مداخلا في محطة تلفزيون الرأي وعائشة وأمها كانتا ضيفتـَي البرنامج، صححتُ صفة "الإعاقة العقلية"، فالعقل هو المفكر، والدماغ هو الوظيفة الفسيولوجية فإعاقتها في الدماغ، وقلت بل إنها عقل عبقريٌ جميل، فابتسمت عائشة على الشاشة وهي تسمع، وقلتُ لها في التوّ، وعلى الهواء: "هذه اللحظة رأيت أجمل مشهد من مشاهد عمري: ابتسامتك يا عائشة!"
أُنهي المقتطفات برسالتين، رفعتاني إلى الأعالي: رسالة من أم عائشة الحشاش، بعد أن قرأت مقالتي عن ابنتها في "الاقتصادية"، وبعد المداخلة التلفزيونية: ".. لطالما حلقتَ فوق السحاب بقلمك وأفكارك وكلماتك التي لا يمكن لقلمي أن يصفها، وها أنت تحلق معنا بشخصك وبذاتك، يا أروع من قال ومن كتب..." ورسالة من عائشة: " كنت أحب نفسي واليوم أحببتها أكثر، فقد وضعتني في برج عاجي. جميل أنت يا مصور لأحلى قلم، وأروع كلمات".
إن أي ناقد محترف لن يوافق عائشة المتفوقة وأمها البطلة في رأيهما عن كتاباتي، ولكن لا يهم: فإني إن أحببتُ يوما كتاباتي يا عائشة، فإني اليومَ أحبها أكثر!
في أمان الله..